الجمعة، 7 فبراير 2014

تذكير العباد


تذكير العباد
بأهلية العَلَمين الوادعي والحجوري للاجتهاد
وبراءتهما من جهيمان وجماعات الفساد

قرأها وأذن بنشرها
فضيلة الشيخ العلامة  أبي عبد الرحمن يحيى بن علي الحجوري
 حفظه الله
مع تقديم
فضلة الشيخ أبي عبد الله محمد بن علي بن حزام البعداني
حفظه الله
كتبها الفقير إلى الله:
أبو فيروز عبد الرحمن الإندونيسي

تقديم فضيلة الشيخ محمد بن علي حزام البعداني حفظه الله

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد:
فقد اطلعت على كتاب أخينا الجليل الداعي إلى الله عز وجل أبي فيروز عبد الرحمن بن سوكايا الإندونيسي الذي سماه: "تذكير العباد بأهلية العَلَمين([1]) الوادعي والحجوري للاجتهاد وبراءتهما من جهيمان وجماعات الفساد" . فرأيته كتابا مفيدا فيه دفاع عن أهل الحق وحملة السنة أعني الإمام العلامة شيخنا مقبلا الوادعي، والإمام العلامة شيخنا يحيى الحجوري، وهذا واجبنا أمام علمائنا: أن ندفع عنهم بالحق، فإن أهل الباطل إذا أرادوا إسقاط الحق سعوا في إسقاط حملته ليتسنى لهم ذلك، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، فجزى الله أخانا أبا فيروز خيرا، ونفع به الإسلام والمسلمين.
كتبه
أبو عبد الله محمد بن علي بن حزام الفضلي البعداني
يوم الخميس الموافق 17 رجب 1433 هـ

الأربعاء، 18 سبتمبر 2013

إثبات نعيم وعذاب القبر وبيان ما في صيام شهر الله المحرم من الأجر




إثبات نعيم وعذاب القبر
وبيان ما في صيام شهر الله المحرم من الأجر

تقديم فضيلة الشيخ أبي محمد عبد الحميد بن يحيى
الحجوري الزعكري حفظه الله


تصنيف:
أبي فيروز عبد الرحمن بن سوكايا الإندونيسي عفا الله عنه
دار الحديث بدماج
حرسها الله





بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم فضيلة الشيخ أبي محمد عبد الحميد بن يحيى الحجوري الزعكري حفظه الله

          الحمد لله رب العالمين، وبعد:
          قد اطلعت على رسالة أخينا الفاضل أبي فيروز الموسومة بـ: "إثبات نعيم وعذاب القبر وبيان ما في صيام شهر الله المحرم من الأجر"، فرأيته أتى فيها بخير وتحذير من بعض البدع، فجزاه الله خيرا ونفع به.

29 ذو الحجة 1433 هـ
أبو محمد عبد الحميد الحجوري



بسم الله الرحمن الرحيم


المقدمة

          الحمد لله رب العالمين، وأشهد لأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى لله عليه وعلى آله وسلم. وبعد:
          قد طلب مني بعض الإخوة أن أذكر بعض التنبيهات فيما يتعلق بشأن شهر المحرم حتى يعبد المسلمون الله على بصيرة وصواب. وقد عزمت تلبية هذا الطلب، ولكني لما رأيت شدة اغترار بعض الناس بزخرف الحياة الدنيا أحببت أن أحثهم على التأهب للحياة البرزخية، قبل شروعي في الكلام على المطلوب والمقصود.
          وأشكر شيخنا الفاضل الغيور أبا محمد عبد الحميد بن يحيى الحجوري الزعكري حفظه الله على بذل جهده في النصح والمراجعة.
          وإلى الموضوع، والله الموفق إلى أقوم الطريق:



الباب الأول: أدلة وجود فتنة القبر، ونعيمه، وعذابه

          إن الحياة الدنيا لا تدوم، بل هي آذنت بالانصراف، وسيأتي آخر الزوار وهم ملائكة الموت المرسلون من رب العالمين. ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى الله مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام: 61، 62].
          فأما من آمن وعمل صالحا فأولئك هم المفلحون. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾ [فصلت: 30 - 32].
          وأما الفاسقون فأولئك هم الخاسرون. قال الله تعالى:  ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ الله وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: 27، 28].
          إن الحياة البرزخية حق لا ريب فيها، فعن هانئ مولى عثمان قال: كان عثْمان إذا وقف على قبر بكى حتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ فَقِيلَ لَهُ تُذْكَرُ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلاَ تَبْكِى وَتَبْكِى مِنْ هَذَا، فقال: إِنَّ رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الآخِرَةِ فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ ». قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلاَّ وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ ». (أخرجه الترمذي (كتاب الزهد/باب-5/(2478)/أحوذي/دار إحياء التراث)، وحسنه الإمام الألباني رحمه الله في "مشكاة المصابيح" (رقم (132)/مكتبة الإسلامي)، والإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" رقم (909) /دار الآثار).
          فلا بد من السعي في اجتناب أسباب عذاب القبور، مع ازدياد الأعمال  الصالحة للفوز بنعيمها.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ... فجاء فتى من الأنصار فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جلس فقال: يا رسول الله أي المؤمنين أفضل؟ قال: «أحسنهم خلقا» قال: فأي المؤمنين أكيس؟ قال: «أكثرهم للموت ذكراً، وأحسنهم له استعداداً قبل أن ينزل بهم، أولئك من الأكياس» الحديث. (أخرجه الحاكم في "المستدرك" (كتاب الفتن والملاحم/(8688)/دار الحرمين) وغيره، وقال الإمام الألباني رحمه الله في "الصحيحة" ((1384)/مكتبة المعارف): فالحديث بمجموع هذه الطرق حسن. وحسنه أيضا الإمام الوادعي رحمه الله في "الجامع الصحيح في القدر" /خصال خمس/ص431/مكتبة صنعاء الأثرية).
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت: لأهلها يا ويلها أين يذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمع الإنسان لصعق» . (أخرجه البخاري (1316)).
قال بدر الدين العيني رحمه الله: وفي لفظ «يسمع» دلالة أن القول ههنا حقيقة لا مجاز، وأنه تعالى يحدث النطق في الميت إذا شاء وقال: (يا ويلها) لأنها تعلم أنها لم تقدم خيرا، وأنها تقدم على ما يسوؤها، فتكره القدوم عليها. والضمير في قوله: «لو سمعه» راجع إلى دعائه بالويل على نفسها. أي: تصيح بصوت منكر لو سمعه الإنسان لأغشي عليه. ("عمدة القاري"/12/ص380).
يجب علينا اعتقاد أن فتنة القبر، ونعيمه، وعذابه حق، لصحة الأخبار في ذلك، وهي من عقائد المسلمين. وقد مر بنا بعض الأدلة على ذلك، وهذه بعض الأخرى.
قال الله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ﴾ [إبراهيم: 27].
عن البراء بن عازب رضي الله عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال « ﴿يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت﴾ قال: « نزلت في عذاب القبر فيقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله ونبيي محمد -صلى الله عليه وسلم-. فذلك قوله عز وجل: ﴿ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت فى الحياة الدنيا وفى الآخرة﴾ » القبر. (أخرجه البخاري (1369) ومسلم (2871)).
إن أدلة عذاب القبور ونعيمها كثيرة جدا، والتي ذكرتها كافية. وستأتي زيادة في الأبواب الآتية.
وذكر ابن الفارسي الليث صاحب أبي الفرج بن الجوزي في تاريخه أنه في سنة تسعين وخمسمائة وجد ميت ببغداد بظاهر باب البصرة وقد بلي، ولم يبق غير عظامه وفي يديه ورجليه ضباب حديد وضرب فيها مسماران أحدهما في سرته والآخر في جبهته، وكان هائل الخلقة غليظ العظام. وكان سبب ظهروه زيادة الماء كشف تلا كان يعرف بالتل الأحمر على ميلين من سور باب البصرة القديم. ("أهوال القبور"/لابن رجب/ص 109).



الباب الثاني: تنصيص أهل السنة على وجوب الإيمان بفتنة القبر، وعذابه، ونعيمه

إن أهل السنة يؤمنون بفتنة القبر، وعذابه، ونعيمه. قال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ رحمه الله عن رجل سأل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: وإن الله عز وجل يرى في الآخرة؟ قال: نعم. قال: وعذاب القبر، ومنكر ونكير؟ قال أبو عبد الله: نؤمن بهذا كله. ومن أنكر واحده من هذه فهو جهمي اهـ. ("مسائل إسحاق بن إبراهيم بن هانئ"/رقم (1878-1879)/دار التأصيل).
قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله: وأجمعوا على ... أن الناس يفتنون في قبورهم اهـ. ("رسالة إلى أهل الثغر"/ص279/مكتبة العلوم والحكم).
وقال رحمه الله: وأنكرت المعتزلة عذاب القبر أعاذنا منه، وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم من وجوه كثيرة وروي عن أصحابه رضي الله عنهم أجمعين وما روي عن أحد منهم أنه أنكره ونفاه وجحده فوجب أن يكون إجماعا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم اهـ. ("الإبانة"/باب الكلام في عذاب القبر/ص175/مكتبة صنعاء).
وقال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: وأما قوله: «أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم» ([1]) فإنه أراد فتنة الملكين منكر ونكير حين يسألان العبد من ربك وما دينك ومن نبيك والآثار في هذا متواترة وأهل السنة والجماعة كلهم على الإيمان بذلك ولا ينكره إلا أهل البدع اهـ. ("التمهيد"/كتاب صلاة الكسوف/باب ما جاء في صلاة الكسوف/5 / ص309/ط. الفاروق الحديثية).
وقال الإمام ابن قتيبة رحمه الله: أصحاب الحديث كلهم مجمعون على أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لا يكون، وعلى أنه خالق الخير والشر، وعلى أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وعلى أن الله تعالى يُرى يوم القيامة، وعلى تقديم الشيخين، وعلى الإيمان بعذاب القبر. لا يختلفون في هذه الأصول. ومن فارقهم في شيء منها نابذوه وباغضوه وبدّعوه وهجروه اهـ. ("تأويل مختلف الحديث" /ص27/دار الفكر).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله:  وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أمر الجنة والنار والبعث والحساب وفتنة القبر والحوض وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر فإن هذه الأصول كلها متفق عليها بين أهل السنة والجماعة اهـ. ("مجموع الفتاوى" /11 / 486/مكتبة ابن تيمية).
          وسئل رحمه الله: هل عذاب القبر يكون على النفس والبدن أو على النفس ؛ دون البدن ؟
          فأجاب رحمه الله: بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعا باتفاق أهل السنة والجماعة تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن وتعذب متصلة بالبدن والبدن متصل بها فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين كما يكون للروح منفردة عن البدن اهـ. ("مجموع الفتاوى" /4 / 282/مكتبة ابن تيمية).
         


الباب الثالث: من أسباب عذاب القبور

          إن الله أرحم الراحمين، وهو الغفور الرحيم، فلا يعذب عباده إلا بما كسبت أيديهم. ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30]
فكذلك عذاب القبر لا يحصل إلا بذنوب صاحبه، فلا بد أن نعرف بعض أسباب العذاب لئلا يصيبنا، ونعرف أسباب نعيمها فنسعى في تحصيلها، كما قال أبو فراس الحمداني:
عرفت الشَّرَّ لا للشَّر ... و لكن لتوقِّيهِ
ومن لا يعرف الشَّرَّ ... من النَّاس يقع فيهِ!
انتهى من ("الحماسة المغربية"/1 / ص 124).
وقد قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: كان الناس يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. (أخرجه البخاري (3606) ومسلم (1847)).
وجزاء من يتوقي الشر وقايته، كما أن من يتحرى الخير إدراكه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: من يتحرّ الخير يعطه، ومن يتوقّ الشرّ يوقه. ("اقتضاء الصراط المستقيم"/2/ص270).
فمن أسباب عذاب القبر ما يلي:

السبب الأول: الكفر بالله عز وجل وبرسوله
          فالكفر بالله وبرسوله من أعظم أسباب عذاب القبر، كما حصل في فرعون. قال الله تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ﴾ [غافر: 36، 37].
          قال الإمام ابن كثير رحمه الله: ﴿فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا﴾، وهذا من كفره وتمرده، أنه كذب موسى في أن الله، عز وجل، أرسله إليه. ("تفسير القرآن العظيم"/7/ص144).
          فمن أجل ذلك الكفر عذبه الله في الدنيا والقبر وفي الآخرة. قال الله تعالى: ﴿فَوَقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَاب﴾ [غافر : 45 ، 46]
          قال الإمام ابن كثير رحمه الله: وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور، وهي قوله: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ اهـ. ("تفسير القرآن العظيم" /7 /ص146).
          وقال الله تعالى في قصة قوم نوح عليه السلام: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ الله أَنْصَارًا﴾ [نوح : 25].
          قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى: ﴿مما خطاياهم﴾ وقرئ: ﴿خطيئاتهم﴾ ﴿ أغرقوا﴾ أي: من كثرة ذنوبهم وعتوهم وإصرارهم على كفرهم ومخالفتهم رسولهم ﴿أغرقوا فأدخلوا نارا﴾ أي: نقلوا من تيار البحار إلى حرارة النار. ("تفسير القرآن العظيم"/8 /ص236).
          الشاهد هنا أنهم بعد إغراقهم بالماء نقل بهم مباشرة إلى عذاب النار بدون مهلة، فهذا يدل على عذاب القبر. والله أعلم. قال الإمام الشوكاني رحمه الله: أي من أجلها وبسببها أغرقوا بالطوفان ﴿فأدخلوا نارا﴾ عقب ذلك ، وهي نار الآخرة . وقيل : عذاب القبر. ("فتح القدير"/7/ص317).
          وقال أبو البركات النسفي رحمه الله: ﴿فأدخلوا﴾ للإيذان بأنهم عذبوا بالإحراق عقيب الإغراق فيكون دليلاً على إثبات عذاب القبر. ("مدارك التنزيل"/3/ص473).


السبب الثاني: الكذب على الله والاستكبار على آياته
          إن الكذب على الله من أكبر الكبائر ومن أعظم سبب الفساد، كما جاء في بعض الأدلة، وهو أيضا من أسباب عذاب القبر.
          قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى الله كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ الله وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾  [الأنعام : 93].
          قال ابن القيم رحمه الله: وهذا خطاب لهم عند الموت وقد أخبرت الملائكة وهم الصادقون أنهم حينئذ يجزون عذاب الهون ولو تأخر عنهم ذلك إلى انقضاء الدنيا لما صح أن يقال لهم: اليوم تجزون اهـ. ("الروح" /المسألة الثامنة/ص132/دار الكتاب العربي).
          وقال الإمام ابن عثيمين رحمه الله: أما عذاب القبر فاستمع إلى قول الله عز وجل: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ﴾ (الأنعام: من الآية93) أي: سكرات الموت ﴿وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ﴾ مادين أيديهم لهذا المحتضر من الكفار ﴿أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ﴾ وكأنهم شحيحون بأنفسهم، لأنها تبشر -والعياذ بالله- بالعذاب، فتهرب في البدن و تتفرق و يشح بها الإنسان، فيقال: ﴿أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ (الأنعام: من الآية93) ، أي: اليوم يوم موتهم عند احتضارهم. ("شرح رياض الصالحين"/للعثيمين /6/ص104-105).

السبب الثالث: الإعراض عن الحق
          إنما خلق الله الإنس والجن ليعبدوه ويوحدوه لا شريك له. وجعلهم في الأرض لامتثال أوامره واجتناب نواهيه لهدايتهم ومصالحهم. قال تعالى: ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾ [طه: 123].
          وأما من أعرض عن هداية الله غضب الله عليه وعاقبه بضيق الحياة في الدنيا والقبر، والعمى في الآخرة. قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾  [طه : 124].
          قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وقوله تعالى ﴿فإن له معيشة ضنكاً﴾ فسرها غير واحد من السلف بعذاب القبر، وجعلوا هذه الآية أحد الأدلة الدالة على عذاب القبر، ولهذا قال: ﴿ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى﴾ أي تترك في العذاب كما تركت العمل بآياتنا. فذكر عذاب البرزخ، وعذاب دار البوار اهـ. ("مفتاح دار السعادة" /ص 43/دار الفكر).

السبب الرابع: الشرك
          قال الله تعالى في حال المشركين: ﴿أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ الله سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ * فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ * يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ * وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الطور : 43-47]
          هذه الآيات تدل على أن المشركين معذبون في الدنيا والقبر والآخرة.
          قال الإمام ابن القيم رحمه الله في ذكر عذاب الدنيا، والقبر الآخرة: هذا في دورهم الثلاث ليس مختصا بالدار الآخرة وإن كان تمامه وكماله وظهوره : إنما هو في الدار الآخرة وفي البرزخ دون ذلك كما قال تعالى : ﴿وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك﴾ ]الطور : 47[ وقال تعالى : ﴿ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين * قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون﴾ ]النمل : 71-72 [ وفي هذه الدار دون ما في البرزخ. ("مدارج السالكين"/1 /ص423).

السبب الخامس: النفاق
          قال الله تعالى: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيم﴾ [التوبة : 101].
          قال قتادة رحمه الله: ﴿سنعذبهم مرتين﴾، عذاب الدنيا، وعذاب القبر،  ﴿ثم يردون إلى عذاب عظيم﴾. ("جامع البيان" /11/ص646/دار هجر)([2]).
          وأما أثر عن الحسن البصري رحمه الله في تفسير: ﴿سنعذبهم مرتين﴾، قال: عذاب الدنيا وعذاب القبر فلم يثبت على حسب علمي. ("جامع البيان" /11 /ص647/دار هجر)([3]).
          قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ الله سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَالله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: 26 - 28].
          قال الإمام ابن كثير رحمه الله: ﴿ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر﴾ أي: مالئوهم وناصحوهم في الباطن على الباطل، وهذا شأن المنافقين يظهرون خلاف ما يبطنون. ("تفسير القرآن العظيم"/7/ص321).
          فمن عقوباتهم أن الله عذبهم بما يذكر في هذه الآيات. قال ابن حجر رحمه الله: وهذا وإن كان قبل الدفن فهو من جملة العذاب الواقع قبل يوم القيامة. ("فتح الباري"/ 3/ص233).

السبب السادس: التفريط في طاعة الله
قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون : 99 ، 100].
          قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يخبر تعالى عن حال المحتضر عند الموت، من الكافرين أو المفرطين في أمر الله تعالى، وقيلهم عند ذلك، وسؤالهم الرجعة إلى الدنيا، ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته؛ ولهذا قال: ﴿رب ارجعون * لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا﴾ كما قال تعالى: ﴿وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين . ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون﴾ [المنافقون: 10، 11] ، وقال تعالى: ﴿وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال﴾ [إبراهيم:44]، وقال تعالى: ﴿يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل﴾ [الأعراف: 53] ، وقال تعالى: ﴿ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون﴾ [السجدة: 12] ، -إلى قوله:- فذكر تعالى أنهم يسألون الرجعة، فلا يجابون، عند الاحتضار، ويوم النشور ووقت العرض على الجبار، وحين يعرضون على النار، وهم في غمرات عذاب الجحيم. ("تفسير القرآن العظيم"/5/ص493).
          وقال رحمه الله: وفي قوله: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ﴾ تهديد لهؤلاء المحتضرين من الظلمة بعذاب البرزخ، كما قال: ﴿مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ﴾ [الجاثية: 10] وقال: ﴿وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾ [إبراهيم: 17]. وقوله: ﴿إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ أي: يستمر به العذاب إلى يوم البعث، كما جاء في الحديث: «فلا يزال معذّباً فيها»([4])، أي: في الأرض اهـ. ("تفسير القرآن العظيم" /5 / ص153/دار الآثار).

السبب السابع: النميمة
          عن ابن عباس رضي الله عنهما مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان من كبير» ثم قال: «بلى، أما أحدهما فكان يسعى بالنميمة، وأما أحدهما فكان لا يستتر من بوله». قال: ثم أخذ عودا رطبا فكسره باثنتين ثم غرز كل واحد منهما على قبر ثم قال: «لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا» . (أخرجه البخاري (1378) ومسلم (292)).

السبب الثامن: عدم التنزه من إصابة بوله
          والدليل ما سبق. قال ابن حجر رحمه الله: وفيه التحذير من ملابسة البول ويلتحق به غيره من النجاسات في البدن والثوب، ويستدل به على وجوب إزالة النجاسة خلافا لمن خص الوجوب بوقت إرادة الصلاة، والله أعلم. ("فتح الباري"/ لابن حجر /1/ص321).

السبب التاسع: ترك الصلاة تعمدا
عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال في قصة رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وإنه قال ذات غداة: «إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي : انطلق ، وإني انطلقت معهما ، وإنا أتينا على رجل مضطجع ، وإذا آخر قائم عليه بصخرة ، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه ، فيثلغ رأسه ، فيتهدهد الحجر هاهنا ، فيتبع الحجر فيأخذه ، فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان ، ثم يعود عليه ، فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى، قال : قلت لهما : سبحان الله، ما هذان؟ قال : قالا لي : انطلق ، قال : فانطلقنا إلى قوله:- قالا لي : أما إنا سنخبرك، أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة» الحديث. (أخرجه البخاري (7047)).
وفي رواية له: «يفعل به إلى يوم القيامة». (أخرجه البخاري (1386)).

السبب العاشر: رفض القرآن وعدم العمل به
          والدليل ما سبق، وما سيأتي. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفيه أن بعض العصاة يعذبون في البرزخ إلى قوله:- والتحذير من النوم عن الصلاة المكتوبة، وعن رفض القرآن لمن يحفظه. ("فتح الباري"/12/ص 445).
وقال العيني رحمه الله: ولما رفض أشرف الأشياء وهو القرآن عوقب في أشرف أعضائه. ("عمدة القاري"/35/ص102).

السبب الحادي عشر: الكذب يبلغ الآفاق
عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه فقال: «من رأى منكم الليلة رؤيا؟». قال: فإن رأى أحد قصها فيقول ما شاء الله. فسألنا يوما فقال: «هل رأى أحد منكم رؤيا؟» قلنا: لا. قال: «لكني رأيت الليلة رجلين أتياني، فأخذا بيدي، فأخرجاني إلى الأرض المقدسة، فإذا رجل جالس ورجل قائم بيده كلوب من حديد». قال: «إنه يدخل ذلك الكلوب في شدقه حتى يبلغ قفاه، ثم يفعل بشدقه الآخر مثل ذلك، ويلتئم شدقه هذا فيعود، فيصنع مثله. قلت: ما هذا؟ قالا: انطلق، فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه ورجل قائم على رأسه بفهر أو صخرة، فيشدخ به رأسه، فإذا ضربه تدهده الحجر، فانطلق إليه ليأخذه، فلا يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه، وعاد رأسه كما هو. فعاد إليه، فضربه. قلت: من هذا؟ قالا: انطلق فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع يتوقد تحته نارا، فإذا اقترب ارتفعوا حتى كاد أن يخرجوا، فإذا خمدت رجعوا فيها، وفيها رجال ونساء عراة. فقلت: من هذا؟ قالا انطلق. فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم. على وسط النهر». قال: «وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر، فيرجع كما كان. فقلت: ما هذا؟». قالا: انطلق فانطلقنا حتى انتهينا إلى روضة خضراء فيها شجرة عظيمة، وفي أصلها شيخ وصبيان، وإذا رجل قريب من الشجرة بين يديه نار يوقدها. فصعدا بي في الشجرة وأدخلاني دارا لم أر قط أحسن منها، فيها رجال شيوخ وشباب ونساء وصبيان، ثم أخرجاني منها فصعدا بي الشجرة فأدخلاني دارا هي أحسن وأفضل، فيها شيوخ وشباب. قلت: طوفتماني الليلة، فأخبراني عما رأيت. قالا: نعم، أما الذي رأيته يشق شدقه فكذاب يحدث بالكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به إلى يوم القيامة. والذي رأيته يشدخ رأسه فرجل علمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل فيه بالنهار يفعل به إلى يوم القيامة والذي رأيته في الثقب فهم الزناة والذي رأيته في النهر آكلوا الربا والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم عليه السلام والصبيان حوله فأولاد الناس والذي يوقد النار مالك خازن النار والدار الأولى التي دخلت دار عامة المؤمنين وأما هذه الدار فدار الشهداء وأنا جبريل وهذا ميكائيل فارفع رأسك فرفعت رأسي فإذا فوقي مثل السحاب قالا ذاك منزلك قلت دعاني أدخل منزلي قالا إنه بقي لك عمر لم تستكمله فلو استكملت أتيت منزلك». (أخرجه البخاري (1386)).
          قال ابن حجر رحمه الله: وإنما استحق التعذيب لما ينشأ عن تلك الكذبة من المفاسد، وهو فيها مختار غير مكره ولا ملجأ. قال ابن هبيرة: لما كان الكاذب يساعد أنفه وعينه لسانه على الكذب بترويج باطله وقعت المشاركة بينهن في العقوبة. ("فتح الباري"/ لابن حجر /12 /ص445).

السبب الثاني عشر: أكل الربا
          الدليل ما سبق ذكره. قال ابن هبيرة رحمه الله: إنما عوقب آكل الربا بسباحته في النهر الأحمر وإلقامه الحجارة لأن أصل الربا يجري في الذهب، والذهب أحمر. وأما إلقام الملك له الحجر فإنه إشارة إلى أنه لا يغني عنه شيئا، وكذلك الربا فإن صاحبه يتخيل أن ماله يزداد والله من ورائه محقه. ("فتح الباري"/ لابن حجر /12/ص445).

السبب الثالث عشر: الزنا
          الدليل ما سبق ذكره. قال ابن حجر رحمه الله: قوله: «فهم الزناة» مناسبة العري لهم لاستحقاقهم أن يفضحوا، لأن عادتهم أن يستتروا في الخلوة، فعوقبوا بالهتك. والحكمة في إتيان العذاب من تحتهم كون جنايتهم من أعضائهم السفلى. ("فتح الباري" /لابن حجر /12/ص445).

السبب الرابع عشر: الأمر بالخيرات وهو لم يعمل بها
          عن أنس رضي الله عنه أن النبي قال : «رأيت ليلة أسري بي رجالا تقطع ألسنتهم بمقاريض من نار فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء من أمتك يأمرون الناس بما لا يفعلون». (أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط" (411)، السند حسن، رجاله ثقات إلا أحمد بن خليد وهو أبو عبد الله ابن يزيد الكندي، صدوق).

السبب الرابع عشر: الغيبة والفرية
          عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم. فقلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم». (أخرجه أبو داود (4878) وصححه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" رقم (112)).
          قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ثم ينعم المؤمن في البرزخ على حسب أعماله، ويعذب الفاجر فيه على حسب أعماله، ويختص كل عضو بعذاب يليق بجناية ذلك العضو، فتقرض شفاه المغتابين الذين يمزقون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم بمقاريض من نار. ("تحفة المودود"/ص 305).
          هكذا ذكره ابن القيم رحمه الله. والشاهد هنا: أن العذاب في البرزخ يقع على حسب الجناية. والله أعلم.

السبب الخامس عشر: العجب والخيلاء
          عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «بينما رجل يتبختر يمشي في برديه قد أعجبته نفسه فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة». (أخرجه البخاري (5789) و مسلم (2088)).
          قال القرطبي رحمه الله: وإعجاب الرجل بنفسه : هو ملاحظته لها بعين الكمال ، والاستحسان مع نسيان منة الله تعالى ، فإنَّ رفعها على الغير واحتقره ، فهو الكبر المذموم . ("المفهم"/17/ص94).

السبب السادس عشر: الظلم على الحسين بن علي رضي الله عنهما
          إن الحسين بن علي بن أبي طاب رضي الله عنهما، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتله عبيد الله بن زياد ظلما في كربلاء يوم عاشوراء. قال الإمام ابن كثير رحمه الله: ثم دخلت سنة إحدى وستين، استهلت هذه السنة والحسين بن على سائر إلى الكوفة فيما بين مكة والعراق ومعه أصحابه وقراباته فقتل في يوم عاشوراء من شهر المحرم من هذه السنة على المشهور. ("البداية والنهاية"/8/ص172).
          ثم قَتل إبراهيم بن الأشتر عبيدَ الله بن زياد يوم عاشوراء أيضا سنة سبع وستين من الهجرة.
          قال الإمام ابن كثير رحمه الله: ... ثم اتفق خروج ابن الأشتر إليه في سبعة آلاف وكان مع ابن زياد أضعاف ذلك ولكن ظفر به ابن الأشتر فقتله شر قتلة على شاطىء نهر الخازر قريبا من الموصل بخمس مراحل. قال أبو أحمد الحاكم: وكان ذلك يوم عاشوراء. قلت: وهو اليوم الذي قتل فيه الحسين. ("البداية والنهاية"/8/ص286).
          وعن عمارة بن عمير قال : لما جيء برأس عبيد الله بن زياد وأصحابه نضدت في المسجد في الرحبة فانتهيت إليهم وهم يقولون: قد جاءت، قد جاءت. فإذا حية قد جاءت تخلل الرؤس حتى دخلت في منخري عبيد الله بن زياد فمكثت هنيهة ثم خرجت فذهبت حتى تغيبت ثم قالوا قد جاءت قد جاءت ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثا. (أخرجه الترمذي (3780) بسند صحيح).

السبب السابع عشر: المكس
          إن المكس على المسلمين كبيرة من الكبائر، من عادات أهل الجاهلية. قال أبو عبيد: وكان المكس له أصل في الجاهلية، يفعله ملوك العرب والعجم جميعاً، فكانت سنتهم أن يأخذوا من التجار عشر أموالهم إذا مروا بها عليهم، -إلى قوله:- فعلمنا بهذا أنه كان من سنة الجاهلية مع أحاديث فيه كثيرة. فأبطل اللّه تعالى ذلك برسوله صلى الله عليه وسلم وبالإسلام، وجاءت فريضة الزكاة، ... إلخ. ("أحكام أهل الذمة"/لابن القيم رحمه الله/ص 51).
          وقال الإمام الذهبي رحمه الله: و المكاس من أكبر أعوان الظلمة بل هو من الظلمة أنفسهم فإنه يأخذ ما لا يستحق، و يعطيه لمن لا يستحق إلى قوله:- ومن أين للمكاس يوم القيامة أن يؤدي للناس ما أخذ منهم ؟ إنما يأخذون من حسناته إن كان له حسنات ! و هو داخل في قول النبي صلى الله عليه و سلم : «أتدرون من المفلس؟». قالوا: يا رسول الله المفلس فينا من لا درهم له و لا متاع. «إن المفلس من أمتي من يأتي بصلاة و زكاة و صيام و حج و يأتي و قد شتم هذا و ضرب هذا و أخذ مال هذا فيؤخذ لهذا من حسناته و هذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار». ]أخرجه مسلم (6744) عن أبي هريرة رضي الله عنه[.
          وفي حديث المرأة التي طهرت نفسها بالرجم: «لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له أو لقبلت منه». ]أخرجه مسلم (1695) عن بريدة رضي الله عنه[.
          والمكاس من فيه شبه من قاطع الطريق، وهو من اللصوص وجابي المكس وكاتبه وشاهده وآخذه من جندي و شيخ و صاحب رواية شركاء في الوزر آكلون للسحت والحرام وصح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «لا يدخل الجنة لحم نبت من السحت النار أولى به». ]أخرجه الإمام أحمد (14441) وحسنه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" ((245)/دار الآثار)[.
          والسحت: كل حرام قبيح الذكر يلزم منه العار.
(انتهى النقل من "الكبائر"/للذهبي/ص 115).
          وقال ابن القيم رحمه الله: وحدثني صاحبنا أبو عبد الله محمد بن الوزير الحراني أنه خرج من داره بعد العصر بآمد إلى بستان قال: فلما كان قبل غروب الشمس توسطت القبور فإذا بقبر منها وهو جمرة نار مثل كور الزجاج والميت في وسطه فجعلت أمسح عيني وأقول: أنائم أنا أم يقظان؟ ثم التفت إلى سور المدينة وقلت: والله ما أنا بنائم ثم ذهبت إلى أهلي وأنا مدهوش، فأتوني بطعام فلم أستطع أن آكل، ثم دخلت البلد فسألت عن صاحب القبر فإذا به مكاس قد توفي ذلك اليوم. ("الروح"/ص66-67).
(ونقله ابن رجب رحمه الله في "أهوال القبور"/ص 109).

السبب الثامن عشر: الغلول
          إن الغلول من الكبائر. قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 161]
          قال الإمام القرطبي رحمه الله: أي يأتي به حاملا له على ظهره ورقبته، معذبا بحمله وثقله، ومرعوبا بصوته، وموبخا بإظهار خيانته على رءوس الأشهاد، على ما يأتي. وهذه الفضيحة التي يوقعها الله تعالى بالغال نظير الفضيحة التي توقع بالغادر، في أن ينصب له لواء عند أسته بقدر غدرته. وجعل الله تعالى هذه المعاقبات حسبما يعهده البشر ويفهمونه. ("الجامع لأحكام القرآن"/ 4/ص256).
          عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الغلول، فعظمه، وعظم أمره، قال: «لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، على رقبته فرس له حمحمة، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. وعلى رقبته بعير له رغاء يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. وعلى رقبته صامت فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، أو على رقبته رقاع تخفق، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك». (أخرجه البخاري (3073) ومسلم (1831)).
          عن عبد الحميد بن محمود المعولي قال: كنت جالسا عند ابن عباس فأتاه قوم فقالوا: إنا خرجنا حجاجا ومعنا صاحب لنا حتى أتينا ذا الصفاح فمات فهيأناه ثم انطلقنا فحفرنا له قبرا ولحدنا له، فلما فرغنا من لحده إذا نحن بأسود قد ملأ اللحد، فتركناه وحفرنا له مكانا آخر فلما فرغنا من لحده إذا نحن بأسود قد ملأ اللحد، فتركناه وأتيناك. فقال ابن عباس ذلك: الغل الذي تغل به، انطلقوا فادفنوه في بعضها، فوالذي نفسي بيده لو حفرتم الأرض كلها لوجدتموه فيها. فانطلقنا فدفناه، فلما رجعنا أتينا أهله بمتيع كان له معنا فقلنا لامرأته: ما كان عمل زوجك فقالت: كان يبيع الطعام فيأخذ كل يوم منه قوت أهله ثم يقرض القصب مثله فيلقيه فيه ([5]).
          لعل الرجل كان عاملا لغيره يبيع طعامه، فيغلّ كل يوم قسطاً من الطعام لأهله بغير عقد بينه وبين صاحب السلعة، ثم يدسّ ذلك القصب في الطعام تغريراً. والله أعلم.

السبب التاسع عشرة: شتم السلف الصالح
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يأتي على الناس زمان يبعث منهم البعث فيقولون: انظروا هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فيوجد الرجل فيفتح لهم به. ثم يبعث البعث الثاني فيقولون: هل فيهم من رأى أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فيفتح لهم به. ثم يبعث البعث الثالث فيقال: انظروا هل ترون فيهم من رأى من رأى أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يكون البعث الرابع فيقال: انظروا هل ترون فيهم أحدا رأى من رأى أحدا رأى أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فيوجد الرجل فيفتح لهم به ». (أخرجه مسلم (2532)).
          إن للصحابة رضي الله عنهم منة عظيمة على هذه الأمة. قال الإمام ابن كثير رحمه الله: وقد كان للصحابة -رضي الله عنهم -في باب الشجاعة والائتمار بأمر الله، وامتثال ما أرشدهم إليه -ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم، ولا يكون لأحد ممن بعدهم؛ فإنهم ببركة الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، وطاعته فيما أمرهم، فتحوا القلوب والأقاليم شرقا وغربا في المدة اليسيرة، مع قلة عَدَدهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم، من الروم، والفرس، والترك، والصقالبة والبربر، والحبُوش، وأصناف السودان، والقبْط، وطوائف بني آدم، قهروا الجميع حتى عَلَتْ كلمة الله، وظهر دينه على سائر الأديان، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، في أقل من ثلاثين سنة، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وحشرنا في زمرتهم، إنه كريم وهاب. ("تفسير القرآن العظيم"/4 /ص72).
فمن تنقصهم، أو سبهم، أو طعن فيهم فإنه ضال بل قد يكون كافرا. قال الله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ الله وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ الآية. [الفتح/29].
          قال الإمام ابن كثير رحمه الله: ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك -رحمه الله، في رواية عنه-بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة، قال: لأنهم يغيظونهم، ومن غاظ الصحابة فهو كافر لهذه الآية. ووافقه طائفة من العلماء على ذلك. ("تفسير القرآن العظيم"/7/ص 362).
          وقال الإمام ابن أبي الدنيا رحمه الله: حدثني محمد بن الحسين حدثني أبو إسحاق صاحب الشاة قال: دعيت إلى ميت لأغسله فلما كشفت الثوب عن وجهه إذا بحية قد تطوقت على حلقه فذكر من عظمها قال فخرجت ولم أغلسه قال ذكروا أنه كان يشتم السلف. (كتاب "القبور" /رقم 129) ([6]).

الباب الرابع: من أسباب نعيم القبور

السبب الأول: الإيمان بالله ورسوله، وتحقيق الشهادتين
          وقال الله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ [السجدة: 20]
          قال الإمام القرطبي رحمه الله: ﴿وأما الذين فسقوا﴾ أي خرجوا عن الإيمان إلى الكفر ﴿فمأواهم النار﴾ أي مقامهم فيها. ﴿كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها﴾ أي إذا دفعهم لهب النار إلى أعلاها ردوا إلى موضعهم فيها، لأنهم يطمعون في الخروج منها. ("الجامع لأحكام القرآن"/14/ص107).
          إلى قوله سبحانه: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [السجدة : 21].
          قال الإمام ابن كثير رحمه الله: وقال البراء بن عازب، ومجاهد، وأبو عبيدة: يعني به عذاب القبر. ("تفسير القرآن العظيم"/6/ص369).
          وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: وقد احتج بهذه الآية جماعة منهم عبد الله بن عباس على عذاب القبر، وفي الاحتجاج بها شيء لأن هذا عذاب في الدنيا يستدعى به رجوعهم عن الكفر، ولم يكن هذا ما يخفي على حبر الأمة وترجمان القرآن، لكن من فقهه في القرآن ودقة فهمه فيه فهم منها عذاب القبر فإنه سبحانه أخبر أن له فيهم عذابين أدنى وأكبر فأخبر أنه يذيقهم بعض الأدنى ليرجعوا، فدل على أنه بقي لهم من الأدنى بقية يعذبون بها بعد عذاب الدنيا. ولهذا قال: ﴿من العذاب الأدنى﴾ ولم يقل: ﴿ولنذيقنهم العذاب الأدنى﴾ فتأمله اهـ ("الروح" /المسألة الثامنة/ص132/دار الكتاب العربي).
          وقال الإمام السعدي رحمه الله: وهذه الآية من الأدلة على إثبات عذاب القبر، ودلالتها ظاهرة، فإنه قال: ﴿من العذاب الأدنى﴾ أي: بعض وجزء منه، فدل على أن ثَمَّ عذابًا أدنى قبل العذاب الأكبر، وهو عذاب النار. ("تيسير الكريم الرحمن"/ص 656).
          إذا كان الكافر معذب في قبره، فالمؤمن منعَّم فيه.
          وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : «إذا قبر أحدكم أو الإنسان أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما : المنكر والآخر : النكير فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل محمد ؟ فهو قائل ما كان يقول، فإن كان مؤمنا قال : هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. فيقولان له : إن كنا لنعلم إنك لتقول ذلك، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ذراعا، وينور له فيه فيقال له : نم فينام كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك. وإن كان منافقا قال : لا أدري كنت أسمع الناس يقولون شيئا فكنت أقوله، فيقولان له: إن كنا لنعلم أنك تقول ذلك ثم يقال للأرض : التئمي عليه فتلتئم عليه حتى تختلف فيها أضلاعه، فلا يزال معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك». (أخرجه ابن حبان (3117)، والسند صحيح).

السبب الثاني: الموت شهيدا
          قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران : 169].
          وهذا صريح في نعيم القبر للشهداء. عن مسروق قال: سألنا عبد الله يعني ابن مسعود- عن هذه الآية: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال: «أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئا قالوا: أي شيء نشتهى ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا. ففعل ذلك بهم ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب، نريد أن تردّ أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى. فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا». (أخرجه مسلم (كتاب الإمارة /باب في بيان أن أرواح الشهداء .../(1887)/دار الكتاب العربي)).
قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله: وأخبر الله تعالى أن الشهداء في الدنيا([7]) يرزقون ويفرحون بفضل الله تعالى قال الله تعالى : ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ ]آل عمران: 169 - 170 [ وهذا لا يكون إلا في الدنيا لأن الذين لم يلحقوا بهم أحياء لم يموتوا ولا قتلوا اهـ. ("الإبانة"/باب الكلام في عذاب القبر/ص176-177 /مكتبة صنعاء).
وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الرؤيا الحسنة، فربما قال: «هل رأى أحد منكم رؤيا؟» فإذا رأى الرجل رؤيا سأل عنه، فإن كان ليس به بأس كان أعجب لرؤياه إليه. قال: فجاءت امرأة فقالت: يا رسول الله رأيت كأني دخلت الجنة، فسمعت بها وجبة ارتجت لها الجنة، فنظرت فإذا قد جيء بفلان بن فلان، وفلان بن فلان، حتى عدت اثني عشر رجلا وقد بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم سرية قبل ذلك. قالت: فجيء بهم عليهم ثياب طلس تشخب أوداجهم. قال: فقيل اذهبوا بهم إلى نهر السدخ -أو قال: إلى نهر البيدج- قال: فغمسوا فيه فخرجوا منه وجوههم كالقمر ليلة البدر. قال: ثم أتوا بكراسي من ذهب فقعدوا عليها، وأتي بصحفة -أو كلمة نحوها- فيها بسرة، فأكلوا منها، فما يقلبونها لشق إلا أكلوا من فاكهة ما أرادوا، وأكلتُ معهم. قال: فجاء البشير من تلك السرية فقال: يا رسول الله، كان من أمرنا كذا وكذا، وأصيب فلان، وفلان، حتى عد الاثني عشر الذين عدتهم المرأة. قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «عليّ بالمرأة». فجاءت. قال: «قصّي على هذا رؤياك». فقصّت. قال: هو كما قالت لرسول الله صلى الله عليه و سلم. (أخرجه الإمام أحمد (12408) بسند صحيح).
          وهذه قصة عجيبة واقعية:
          قال الحاكم رحمه الله: سمعت أبا زكرياء يحيى بن محمد العنبري([8]) يقول: سمعت أبا العباس عيسى بن محمد بن عيسى الطهماني المروزي([9]) يقول: إن الله سبحانه وتعالى يظهر إذا شاء ما شاء من الآيات والعبر في بريته فيزيد الإسلام بها عزا وقوة، ويؤيد ما أنزل من الهدى والبينات، وينشر أعلام النبوة، ويوضح دلائل الرسالة، ويوثق عرى الإسلام، ويثبت حقائق الإيمان منا منه على أوليائه وزيادة في البرهان بهم، وحجة على من عند عن طاعته وألحد في دينه: ﴿ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة﴾ فله الحمد لا إله إلا هو ذو الحجة البالغة، والعز القاهر، والطول الباهر. وصلى الله على سيدنا محمد نبي الرحمة ورسول الهدى وعليه وعلى آله الطاهرين السلام ورحمة الله وبركاته.
          وإن مما أدركناه عيانا وشاهدناه في زماننا وأحطنا علما به فزادنا يقينا في ديننا وتصديقا لما جاء به نبينا محمد ودعا إليه من الحق فرغَّب فيه من الجهاد من فضيلة الشهداء وبلغ عن الله عز وجل فيهم إذ يقول جل ثناؤه: ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين﴾ أني وردت في سنة ثمان وثلاثين ومائتين مدينة من مدائن "خوارزم" تدعى "هزاراسب" وهي في غربي وادي "جيحون" ومنها إلى المدينة العظمى مسافة نصف يوم فخبرت أن بها امرأة من نساء الشهداء رأت رؤيا كأنها أطعمت في منامها شيئا، فهي لا تأكل شيئا ولا تشرب شيئا منذ عهد أبي العباس بن طاهر والي "خراسان" وكان توفي قبل ذلك بثمان سنين رضي الله عنه ثم مررت بتلك المدينة سنة اثنتين وأربعين ومائتين فرأيتها وحدثتني بحديثها، فلم أستقص عليها لحداثة سني ثم إني عدت إلى خوارزم في آخر سنة اثنتين وخمسين ومائتين فرأيتها باقية ووجدت حديثها شائعا مستفيضا. وهذه المدينة على مدرجة القوافل، وكان الكثير ممن نزلها إذا بلغهم قصتها أحبوا أن ينظروا إليها، فلا يسألون عنها رجلا ولا امرأة ولا غلاما إلا عرفها ودل عليها.
          فلما وافيت الناحية طلبتها فوجدتها غائبة على عدة فراسخ، فمضيت في أثرها من قرية إلى قرية فأدركتها بين قريتين تمشي مشية قوية، وإذا هي امرأة نصف جيدة القامة حسنة البدن ظاهرة الدم متوردة الخدين ذكية الفؤاد فسايرتني وأنا راكب، فعرضت عليها مركبا فلم تركبه، وأقبلت تمشي معي بقوة، وحضر مجلسي قوم من التجار والدهاقين، وفيهم فقيه يسمى محمد بن حمدويه الحارثي، وقد كتب عنه موسى بن هارون البزار بمكة، وكمل له عبادة ورواية للحديث، وشاب حسن يسمى عبد الله بن عبد الرحمن، وكان يخلف أصحاب المظالم بناحيته، فسألتهم عنها، فأحسنوا الثناء عليها، وقالوا عنها خيرا، وقالوا: (إن أمرها ظاهر عندنا فليس فيها من يختلف فيها). قال المسمى عبد الله بن عبد الرحمن: (أنا أسمع حديثها منذ أيام الحداثة ونشأت والناس يتفاوضون في خبرها، وقد فرغت بالي لها، وشغلت نفسي للاستقصاء عليها، فلم أر إلا سترا وعفافا، ولم أعثر منها على كذب في دعواها، ولا حيلة في التلبيس). وذكر أن من كان يلي خوارزم من العمال كانوا فيما خلا يستخصونها، ويحضرونها الشهر والشهرين والأكثر في بيت يغلقونه عليها، ويوكلون بها من يراعيها، فلا يرونها تأكل ولا تشرب ولا يجدون لها أثر بول ولا غائط، فيبرّونها ويكسونها ويخلون سبيلها.
          فلما تواطأ أهل الناحية على تصديقها استقصصتها عن حديثها وسألتها عن اسمها وشأنها كله، فذكرت أن اسمها: "رحمة بنت إبراهيم" وأنه كان لها زوج نجار فقير، معيشته من عمل يده، يأتيه رزقه يوما ويوما، لا فضل في كسبه عن قوت أهله، وأنها ولدت منه عدة أولاد، وجاء "الأقطع" ملك الترك إلى القرية فعبر الوادي عند جموده إلينا في زهاء ثلاثة آلاف فارس وأهل خوارزم يدعونه "كسرة".
          وقال أبو العباس: و"الأقطع" هذا فإنه كان كافرا عاتيا شديد العداوة للمسلمين، قد أثر على أهل الثُغور وألحّ على أهل خوارزم بالسبي والقتل والغارات، وكانت ولاة خراسان يتألفونه وأنسابه من عظماء الأعاجم ليكفوا غارتهم عن الرعية، ويحقنوا دماء المسلمين، فيبعثون إلى كل واحد منهم بأموال وألطاف كثيرة وأنواع من فاخر الثياب، وأن هذا الكافر انساب في بعض السنين على السلطان، ولا أدري لم ذاك أستبطأ المبار عن وقتها أم استقل ما بعث إليه في جنب ما بعث إلى نظرائه من ملوك الجريجية والثغرغدية.
          فأقبل في جنوده وتورد الثغر واستعرض الطرق فعاث وأفسد وقتل ومثل فعجزت عنه خيول خوارزم. وبلغ خبره أبا العباس عبد الله بن طاهر رحمه الله فأنهض إليهم أربعة من القواد: طاهر بن إبراهيم بن مدرك، ويعقوب بن منصور بن طلحة، وميكال مولى طاهر، وهارون القباض، وشحن البلد بالعساكر والأسلحة ورتبهم في أرباع البلد كل في ربع فحموا الحريم بإذن الله تعالى، ثم إن وادي جيحون وهو الذي في نهر بلخ جمد لما اشتد البرد وهو واد عظيم شديد الطغيان كثير الآفات. وإذا امتد كان عرضه نحوا من فرسخ وإذا جمد انطبق فلم يوصل منه إلى شيء حتى يحفر فيه كما تحفر الآبار في الصخور وقد رأيت كثيف الجمد عشرة أشبار وأخبرت أنه كان فيما مضى يزيد على عشرين شبرا، وإذا هو انطبق صار الجمد جسرا لأهل البلد تسير عليه العساكر والعجل والقوافل، فينطم ما بين الشاطئين، وربما دام الجمد مائة وعشرين يوما وإذا قل البرد في عام بقي سبعين يوما إلى نحو ثلاثة أشهر.
          قالت المرأة: فعبر الكافر في خيله إلى باب الحصن وقد تحصن الناس وضموا أمتعتهم فضجوا بالمسلمين وخربوهم فحصر من ذلك أهل الناحية وأرادوا الخروج فمنعهم العامل دون أن تتوافى عساكر السلطان وتتلاحق المطوعة فشد طائفة من شبان الناس وأحداثهم فتقاربوا من السور بما أطاقوا حمله من السلاح وحملوا على الكفرة فتهارج الكفرة واستجروهم من بين الأبنية والحيطان فلما أصحروا كر الترك عليهم وصار المسلمون في مثل الحرجة فتخلصوا واتخذوا دارة يحاربون من ورائها وانقطع ما بينهم وبين الخصم وبعدت المؤنة عنهم فحاربوا كأشد حرب وثبتوا حتى تقطعت الأوتار والقسي وأدركهم التعب ومسهم الجوع والعطش وقتل عامتهم وأثخن الباقون بالجراحات ولما جن عليهم الليل تحاجز الفريقان.
          قالت المرأة: ورفعت النار على المناظر ساعة عبور الكافر فاتصلت بالجرجانية وهي مدينة عظيمة في قاصية خوارزم وكان ميكال مولى طاهر من أبياتها في عسكر فحث في الطلب هيبة للأمير أبي العباس عبد الله بن طاهر رحمه الله وركض إلى هزاراسب في يوم وليلة أربعين فرسخا بفراسخ خوارزم وفيها فضل كثير على فراسخ خراسان وعد الترك الفراغ من أمر أولئك النفر فبينما هم كذلك إذ ارتفعت لهم الأعلام السود وسمعوا أصوات الطبول فأفرجوا عن القوم ووافى ميكال موضع المعركة فوارى القتلى وحمل الجرحى.        قالت المرأة: وأدخل الحصن علينا عشية ذلك أربعمائة جنازة فلم تبق دار إلا حمل إليها قتيل وعمت المصيبة وارتجَت الناحية بالبكاء.
          قالت: ووضع زوجي بين يدي قتيلا فأدركني من الجزع والهلع عليه ما يدرك المرأة الشابة على زوج أبي الأولاد وكانت لنا عيال.
          قالت: فاجتمع النساء من قراباتي والجيران يسعدنني على البكاء وجاء الصبيان وهم أطفال لا يعقلون من الأمر شيئا، يطلبون الخبز، وليس عندي ما أعطيهم فضقت صدرا بأمري، ثم إني سمعت أذان المغرب ففزعت إلى الصلاة، فصليت ما قضى لي ربي، ثم سجدت أدعو وأتضرع إلى الله وأسأله الصبر بأن يجبر يتم صبياني.
          قالت: فذهب بي النوم في سجودي فرأيت في منامي كأني في أرض حسناء ذات حجارة، وأنا أطلب زوجي، فناداني رجل إلى أين أيتها الحرة؟ قلت: أطلب زوجي. فقال: خذي ذات اليمين. قالت: فأخذت ذات اليمين، فرفع لي أرض سهلة طيبة الري، ظاهرة العشب، وإذا قصور وأبنية لا أحفظ أن أصفها أو لم أر مثلها، وإذا أنهار تجري على وجه الأرض عبر أخاديد ليست لها حافات، فانتهيت إلى قوم جلوس حلقا حلقا عليهم ثياب خضر قد علاهم النور، فإذا هم الذين قتلوا في المعركة يأكلون على موائد بين أيديهم، فجعلت أتخللهم وأتصفح وجوههم أبغي زوجي لكي ينظرني، فناداني: يا رحمة يا رحمة، فيممت الصوت، فإذا أنا به في مثل حال من رأيت من الشهداء، وجهه مثل القمر ليلة البدر وهو يأكل مع رفقة له قتلوا يومئذ معه، فقال لأصحابه: إن هذه البائسة جائعة منذ اليوم أفتأذنون لي أن أناولها شيئا تأكله؟ فأذنوا له، فناولني كسرة خبز. قالت: وأنا أعلم حينئذ أنه خبز ولكن لا أدري كيف يخبز؟ هو أشد بياضا من الثلج واللبن وأحلى من العسل والسكر وألين من الزبد والسمن. فأكلته فلما استقر في جوفي قال: اذهبي كفاك الله مؤنة الطعام والشراب ما حييت الدنيا([10]).
          فانتبهت من نومي شبعى ريا، لا أحتاج إلى طعام ولا شراب. وما ذقتهما منذ ذلك اليوم إلى يومي هذا، ولا شيئا يأكله الناس. قال أبو العباس: وكانت تحضرنا وكنا نأكل فتتنحى وتأخذ على أنفها تزعم أنها تتأذى من رائحة الطعام. فسألتها هل تتغذى بشيء أو تشرب شيئا غير الماء؟ فقالت: لا.
          فسألتها هل يخرج منها ريح أو أذى كما يخرج من الناس؟ فقالت: لا عهد لي بالأذى منذ ذلك الزمان. قلت: والحيض؟ و أظنها قالت: انقطع بانقطاع الطعم.
          قلت: فهل تحتاجين حاجة النساء إلى الرجال؟ قالت: أما تستحيي مني تسألني عن مثل هذا؟ قلت: إني لعلي أحدثُ الناس عنك، ولا بد أن أستقصي. قالت: لا أحتاج.
          قلت: فتنامين؟ قالت: نعم أطيب نوم. قلت: فما ترين في منامك؟ قالت: مثل ما ترون. قلت: فتجدين لفقد الطعام وهناً في نفسك؟ قالت: ما أحسست بجوع منذ طعمت ذلك الطعام.
          وكانت تقبل الصدقة. فقلت لها: ما تصنعين بها؟ قالت: أكتسي وأكسو ولدي. قلت: فهل تجدين البرد وتتأذين بالحر؟ قالت: نعم. قلت: فهل تدرين كلل اللغوب والإعياء إذا مشيت؟ قالت: نعم. ألست من البشر؟ قلت: فتتوضئين للصلاة؟ قالت: نعم. قلت: لم؟ قالت: أمرني بذلك الفقهاء. فقلت: إنهم أفتوها على حديث: «لا وضوء إلا من حدث أو نوم».
          وذكرت لي أن بطنها لاصق بظهرها. فأمرت امرأة من نسائنا فنظرت فإذا بطنها كما وصفت، وإذا قد اتخذت كيسا فضمت القطن وشدته على بطنها كي لا ينقصف ظهرها إذا مشت. ثم لم أزل أختلف إلى هزاراسب بين السنتين والثلاث، فتحضرني فأعيد مسألتها، فلا تزيد ولا تنقص. وعرضت كلامها على عبد الله بن عبد الرحمن الفقيه، فقال: أنا أسمع هذا الكلام منذ نشأت، فلا أجد من يدفعه أو يزعم أنه سمع أنها تأكل أو تشرب أو تتغوط.
(انتهى النقل من "طبقات الشافعية الكبرى"/لابن السبكي/8/ص2-7).
          وعن ثابت البناني رحمه الله قال : كنت عند أنس بن مالك إذ قدم عليه ابن له من غزاة له ، يقال له أبو بكر ، فسأله ، فقال : ألا أخبرك عن صاحبنا ، فلان ؟ بينا نحن قافلين في غزاتنا ، إذ ثار وهو يقول : واأهلاه واأهلاه ، فثرنا إليه ، وظننا أن عارضا عرض له ، فقلنا : ما لك ؟ فقال : إني كنت أحدث نفسي ألا أتزوج حتى أستشهد ، فيزوجني الله تعالى من حور العين ، فلما طالت علي الشهادة ، قلت في سفري هذا : إن أنا رجعت هذه المرة تزوجت ، فأتاني آت قبيل في المنام ، فقال : أنت القائل : إن رجعت تزوجت ؟ قم فقد زوجك الله "العيناء" ، فانطلق بي إلى روضة خضراء معشبة ، فيها عشر جوار ، بيد كل واحدة صنعة تصنعها ، لم أر مثلهن في الحسن والجمال([11]) ، فقلت : فيكن العيناء ؟ فقلن : نحن من خدمها ، وهي أمامك فمضيت ، فإذا روضة أعشب من الأولى وأحسن ، فيها عشرون جارية ، في يد كل واحدة صنعة تصنعها ليس العشر إليهن بشيء في الحسن والجمال ، قلت : فيكن العيناء ؟ قلن : نحن من خدمها ، وهي أمامك ، فمضيت ، فإذا أنا بروضة ، وهي أعشب من الأولى والثانية في الحسن ، فيها أربعون جارية ، في يد كل واحدة منهن صنعة تصنعها ليس العشر والعشرون إليها بشىء في الحسن والجمال ، قلت : فيكن العيناء ؟ قلن : نحن من خدمها ، وهي أمامك ، فمضيت ، فإذا أنا بياقوتة مجوفة فيها سرير عليه امرأة قد فضل جنباها السرير ، قلت : أنت العيناء ؟ قالت : نعم مرحبا ، فذهبت أضع يدي عليها ، قالت : مه ؛ إن فيك شيئا من الروح بعد ، ولكن تفطر عندنا الليلة ، قال : فانتبهت ، قال : فما فرغ الرجل من حديثه حتى نادى المنادي : يا خيل الله اركبي ، قال : فركبنا ، فصافنا العدو ، قال : فإني لأنظر إلى الرجل ، وأنظر إلى الشمس ، وأذكر حديثه ، فما أدري رأسه سقط أم الشمس سقطت.
(انتهى النقل من "الغيلانيات"/لأبي بكر الشافعي /2/ص421).
السند صحيح، رجاله ثقات.
          والأثر أخرجه أيضا الإمام ابن المبارك في "الجهاد" برقم (149) من طريق السري بن يحيى عن ثابت به، وفيه: ثم انتهيت إلى قبة من ياقوتة حمراء مجوفة قد أضاء لها ما حولها، فقال لي صاحبي: ادخل، فدخلت،  فإذا امرأة ليس للقبة معها ضوء، فجلست فتحدثت ساعة، فجعلت تحدثني، فقال صاحبي: اخرج انطلق. قال: ولا أستطيع أن أعصيه. قال: فقمت فأخذتْ بطرف ردائي فقالت: أفطر عندنا الليلة. فلما أيقظتموني رأيت إنما هو حلم فبكيت. فلم يلبثوا أن نودي في الخيل. قال: فركب الناس، فما زالوا يتطاردون حتى إذا غابت الشمس وحلّ للصائم الإفطار أصيب تلك الساعة، وكان صائما. وظننت أنه من الأنصار، وظننت أن ثابتا كان يعلم نسبه اهـ.


السبب الثالث: الإكثار من الأعمال الصالحة
          إن الأعمال الصالحات لها تأثير قوي في دفع عذاب القبر وجلب نعيمه. قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ﴾ [الواقعة : 83 - 94].
          عن البراء رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم وجلسنا حوله، كأنما على رءوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به، فرفع رأسه فقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر» ثلاث مرات أو مرتين، ثم قال: «إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس حتى يجلسون منه مد البصر، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة، يجيء ملك الموت فيقعد عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان. فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء. فإذا أخذوها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن، وذلك الحنوط، فيخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض. فيصعدون فلا يمرون بها على ملآ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: هذا فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح فيفتح لهم فيستقبله من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي به إلى السماء السابعة. قال: فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، في السماء السابعة، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى. فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه و سلم. فيقولان: ما عملك؟ فيقول: قرأت كتاب الله وآمنت به وصدقت به. فينادي مناد من السماء أن: صدق عبدي، فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة. فيأتيه من طيبها وروحها، ويفسح له في قبره مد بصره. ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول: ومن أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير فيقول: أنا عملك الصالح. فيقول: رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي. وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح حتى يجلسون منه مد البصر. ثم قال: ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: يا أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط الله وغضبه. قال: فتفرق في جسده. قال: فتخرج فينقطع معها العروق والعصب كما تنزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في تلك المسوح، فيخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على ظهر الأرض فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث، فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي به إلى سماء الدنيا فيستفتحون فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم: ﴿لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط﴾ قال: فيقول الله عز و جل: اكتبوا كتاب عبدي في سجين في الأرض السفلى وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى. فتطرح روحه طرحا. قال: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم: ﴿ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق﴾. قال: فيعاد روحه في جسده ويأتيه الملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك فيقول: هاه هاه، لا أدري. فيقولان له: وما دينك فيقول: هاه هاه لا أدري. قال فينادي مناد من السماء: افرشوا له من النار وألبسوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار. قال: فيأتيه من حرّها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف عليه أضلاعه ويأتيه رجل قبيح الوجه وقبيح الثياب منتن الريح. فيقول: أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر فيقول: أنا عملك الخبيث. فيقول: رب لا تقم الساعة رب لا تقم الساعة». (أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (12059) وحسنه الإمام الوادعي رحمه الله كما في "الجامع الصحيح"/كتاب الإيمان/الإيمان بنعيم القبر/رقم (515)/دار الآثار).
          وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: «إن الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل الصالح قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان. قال: فلا يزال يقال ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان. فيقولون مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ادخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان. قال: فلا يزال يقال لها: حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل. وإذا كان الرجل السوء قالوا: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج. فلا يزال حتى يخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقال: فلان، فيقال: لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة فإنه لا يفتح لك أبواب السماء. فترسل من السماء ثم تصير إلى القبر، فيجلس الرجل الصالح فيقال له مثل ما قيل له في الحديث الأول ويجلس الرجل السوء» فيقال له مثل ما قيل في الحديث الأول. (أخرجه الإمام أحمد ((8769)/الرسالة)، وهو حديث صحيح، صححه الإمام الوادعي رحمه الله كما في "الجامع الصحيح"/كتاب الإيمان/الإيمان بنعيم القبر/رقم (514)/دار الآثار).

السبب الرابع: المحافظة على الصلوات
          قد مر بنا أن الإكثار من الأعمال الصالحات من أسباب نعيم القبر. وهذه بعض تفاصيلها على حسب ما جاء من الأدلة. والدليل على أن المحافظة على الصلوات تدفع عذاب القبر وتجلب نعيمه ما يأتي:
          عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الميت إذا وضع في قبره إنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه. فإن كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه وكان الصيام عن يمينه وكانت الزكاة عن شماله وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه. فيؤتى من قبل رأسه فتقول الصلاة : ما قبلي مدخل ثم يؤتى عن يمينه فيقول الصيام : ما قبلي مدخل ثم يؤتى عن يساره فتقول الزكاة : ما قبلي مدخل ثم يؤتى من قبل رجليه فتقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس : ما قبلي مدخل فيقال له : اجلس فيجلس وقد مثلت له الشمس وقد أدنيت للغروب فيقال له: أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقول فيه وماذا تشهد به عليه؟ فيقول: دعوني حتى أصلي فيقولون : إنك ستفعل. أخبرني عما نسألك عنه أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقول فيه وماذا تشهد عليه ؟ قال : فيقول : محمد أشهد أنه رسول الله وأنه جاء بالحق من عند الله فيقال له : على ذلك حييت وعلى ذلك مت وعلى ذلك تبعث إن شاء الله ثم يفتح له باب من أبواب الجنة فيقال له: هذا مقعدك منها وما أعد الله لك فيها فيزداد غبطة وسروراً، ثم يفتح له باب من أبواب النار فيقال له: هذا مقعدك منها وما أعد الله لك فيها لو عصيته فيزداد غبطة وسروراً ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً وينور له فيه ويعاد الجسد لما بدأ منه فتجعل نسمته في النسم الطيب وهي طير يعلق في شجر الجنة قال : فذلك قوله تعالى : ﴿يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة﴾ إلى آخر الآية [إبراهيم : 27] قال:  وإن الكافر إذا أتي من قبل رأسه لم يوجد شيء ثم أتي عن يمينه فلا يوجد شيء ثم أتي عن شماله فلا يوجد شيء ثم أتي من قبل رجليه فلا يوجد شيء، فيقال له : اجلس فيجلس خائفا مرعوبا فيقال له : أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ماذا تقول فيه ؟ وماذا تشهد به عليه ؟ فيقول: أي رجل ؟ فيقال: الذي كان فيكم. فلا يهتدي لاسمه حتى يقال له : محمد. فيقول : ما أدري سمعت الناس قالوا قولا فقلت كما قال الناس، فيقال له: على ذلك حييت، وعلى ذلك متّ، وعلى ذلك تبعث إن شاء الله. ثم يفتح له باب من أبواب النار فيقال له: هذا مقعدك من النار وما أعدّ الله لك فيها. فيزداد حسرة وثبوراً ثم يفتح له باب من أبواب الجنة فيقال له: ذلك مقعدك من الجنة وما أعد الله لك فيه لو أطعته، فيزداد حسرة وثبوراً، ثم يضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، فتلك المعيشة الضنكة التي قال الله: ﴿فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى﴾ [طه: 124]». (أخرجه ابن حبان (كتاب الجنائز/فصل في أحوال الميت في قبره/رقم (3103)/تعليقات الحسان/دار باوزير)([12]).

السبب الخامس: الصيام
          والدليل ما سبق.

السبب السادس: أداء الزكاة والصدقة وعموم الإحسان إلى الناس
          والدليل ما سبق.

السبب السابع: صلة الرحم
          والدليل ما سبق.

السبب الثامن: قراءة سورة الملك
          عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: يؤتى الرجل في قبره، فتؤتى رجلاه، فتقول رجلاه: ليس لكم على ما قبلي سبيل، كان يقوم يقرأ بي سورة "الملك"، ثم يؤتى من قبل صدره - أو قال: بطنه - فيقول: ليس لكم على ما قبلي سبيل، كان يقرأ بي سورة "الملك" ثم يؤتى من قبل رأسه، فيقول: ليس لكم على ما قبلي سبيل، كان يقرأ بي سورة "الملك" قال: فهي المانعة، تمنع من عذاب القبر، وهي في التوراة سورة "الملك"، من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب.
أخرجه الحاكم (كتاب التفسير/تفسير سورة الملك/ (3892)/دار المعرفة).
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
والحديث حسنه الإمام الألباني رحمه الله في "صحيح الترغيب" ((1475)/مكتبة المعارف).
الحديث حسن لغيره.


السبب التاسع: الموت في الرباط في سبيل الله

عن سلمان رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان». (أخرجه مسلم (1913)).



الباب الخامس: الاستعداد للحياة بعد الموت باستغلال شهر المحرم بالعبادات المشروعة

          إذا علمنا أن الحياة البرزخية حق لا ريب فيها، وأن فيها نعيم وعذاب، فالعاقل يسعى في سلامة نفسه من عذابها ويجتهد في الفوز بنعيمها.
          ومن نعمة الله علينا أن يبلغنا إلى شهره المحرم، وهو شهر فيه فضائل وفرص لمن استغله بالعبادات الشرعية، فنسأل الله أن يجعلنا ممن إذا أطيل عمره حسن عمله. عن عبد الله بن بسر رضي الله عنهما: أن أعرابيا قال : يا رسول الله من خير الناس ؟ قال: «من طال عمره وحسن عمله». (أخرجه الترمذي (2329) بسند صحيح).
          في هذا الحديث فضل طول العمر مع صالح الأعمال، فلا ينبغي للمؤمن طلب الموت من شدة البلاء.
          قال المناوي رحمه الله: لأن من شأن المرء الازدياد والترقي من مقام إلى مقام، حتى ينتهي إلى مقام القرب، فلا ينبغي للمؤمن المتزود للآخرة الساعي في ازدياد العمل الصالح أن يطلب قطعه عن مطلوبه بتمني الموت. ("فيض القدير" (4038)).
          وقال الإمام ابن عثيمين رحمه الله: لأن الإنسان كلما طال عمره في طاعة الله زاد قرباً إلى الله وزاد رفعة في الآخرة ؛ لأن كل عمل يعمله فيما زاد فيه عمره فهو يقربه إلى ربه ـ عز وجل ـ فخير الناس من وفق لهذين الأمرين .
          أما طول العمر فإنه من الله ، وليس للإنسان فيه تصرف ؛ لأن الأعمار بيد الله ـ عز وجل ـ ، وأما حسن العمل ؛ فإن بإمكان الإنسان أن يحسن عمله ؛ لأن الله تعالى جعل له عقلاً ، وأنزل الكتب ، وأرسل الرسل ، وبين المحجة ، وأقام الحجة ، فكل إنسان يستطيع أن يعمل عملاً صالحاً ، على أن الإنسان إذا عمل عملاً صالحاً ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن بعض الأعمال الصالحة سبب لطول العمر ، وذلك مثل صلة الرحم ؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام : «من أحب أن يبسط له في رزقه ، وينسأ له في أثره فليصل رحمه»([13])، وصلة الرحم من أسباب طول العمر ، فإذا كان خير الناس من طال عمره وحسن عمله؛ فإنه ينبغي للإنسان أن يسأل الله دائماً أن يجعله ممن طال عمره وحسن عمله ، من أجل أن يكون من خير الناس .
          وفي هذا دليل على أن مجرد طول العمر ليس خيراً للإنسان إلا إذا أحسن عمله ؛ لأنه أحياناً يكون طول العمر شراً للإنسان وضرراً عليه ، كما قال الله تبارك وتعالى : ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (آل عمران:178) ، فهؤلاء الكفار يملى الله لهم ـ أي يمدهم بالرزق والعافية وطول العمر والبنين والزوجات ، لا لخير لهم ولكنه شر لهم ـ والعياذ بالله لأنهم سوف يزدادون بذلك إثماً. ("شرح رياض الصالحين"/للعثيمين /12/48).

الفصل الأول: بعض أدلة فضائل شهر المحرم

          ولنشرع الآن في ذكر بعض أدلة فضائل شهر المحرم وما يستحب فيه من الأعمال.

الحديث الأول:

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - يرفعه فقال: « أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة الصلاة في جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم». (أخرجه مسلم (2813)).
هذا الحديث يدل على فضيلة الصوم في شهر المحرم. قال الإمام ابن رجب رحمه الله: و هذا الحديث صريح في أن أفضل ما تطوع به من الصيام بعد رمضان صوم شهر الله المحرم و قد يحتمل أن يراد : أنه أفضل شهر تطوع بصيامه كاملا بعد رمضان فأما بعض التطوع ببعض شهر فقد يكون أفضل من بعض أيامه كصيام يوم عرفه أو عشر ذي الحجة أو ستة أيام من شوال و نحو ذلك. ("لطائف المعارف"/ص 45/دار الحديث).
والله أعلم بمناسبة ذلك. قال الإمام القرطبي رحمه الله: وقوله : «أفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم »؛ هذا إنما كان - والله أعلم- من أجل : أن المحرم أول السنة المستأنفة التي لم يجئ بعد رمضانها ، فكان استفتاحها بالصوم الذي هو من أفضل الأعمال ، والذي أخبر عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : بأنه ضياء. فإذا استفتح سنته بالضياء مشى فيه بقيتها ، والله تعالى أعلم . ("المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم"/10/ص16).
وقوله: «صيام شهر الله المحرم»، أضاف الشهر إلى الله تعظيما. قال الإمام ابن رجب رحمه الله: وقد سمى النبي صلى الله عليه و سلم المحرم شهر الله وإضافته إلى الله تدل على شرفه و فضله، فإن الله تعالى لا يضيف إليه إلا خواص مخلوقاته، كما نسب محمدا، و إبراهيم، و إسحاق، و يعقوب، و غيرهم من الأنبياء إلى عبوديته، ونسب إليه بيته، وناقته. ولما كان هذا الشهر مختصا بإضافته إلى الله تعالى، وكان الصيام من بين الأعمال مضافا إلى الله تعالى فإنه له من بين الأعمال ناسب أن يختص هذا الشهر المضاف إلى الله بالعمل المضاف إليه المختص به وهو الصيام. وقد قيل في معنى إضافة هذا الشهر إلى الله عز و جل : إنه إشارة إلى أن تحريمه إلى الله عز و جل ليس لأحد تبديله كما كانت الجاهلية يحلونه و يحرمون مكانه صفرا، فأشار إلى شهر الله الذي حرمه، فليس لأحد من خلقه تبديل ذلك و تغييره :
 ( شهر الحرام مبارك ميمون ... و الصوم فيه مضاعف مسنون )
 ( و ثواب صائمه لوجه إلهه ... في الخلد عند مليكه مخزون )
 الصيام سر بين العبد و بين ربه و لهذا يقول الله تبارك و تعالى : «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي و أنا أجزي به إنه ترك شهواته و طعامه و شرابه من أجلي»([14]). «وفي الجنة باب يقال له : الريان لا يدخل منه إلا الصائمون فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه غيرهم»([15]). وهو «جنة للعبد من النار كجنة أحدكم من القتال»([16]). ("لطائف المعارف"/ص 49-50/دار الحديث).
وقال الحافظ أبو الفضل العراقي في شرح الترمذي : ما الحكمة في تسمية المحرم شهر الله والشهور كلها لله يحتمل أن يقال : إنه لما كان من الأشهر الحرم التي حرم الله فيها القتال وكان أول شهور السنة أضيف إليه إضافة تخصيص ولم يصح إضافة شهر من الشهور إلى الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا شهر الله المحرم. (كما في تعليق السندي على "سنن النسائي"/3/ص71).
ومما يدل على شرف هذا الشهر: أن الله تعالى جعله من أشهر الحرم الأربعة. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ الله اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ الله يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة: 36].
عن أبي بكرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشرة شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب شهر مضر الذي بين جمادى وشعبان». ثم قال: «أي شهر هذا ؟» قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: «أليس ذا الحجة ؟» قلنا: بلى. قال: «فأي بلد هذا ؟» قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: «أليس البلدة ؟» قلنا: بلى. قال: «فأي يوم هذا ؟» قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: «أليس يوم النحر ؟» قلنا: بلى يا رسول الله. قال: «فإن دماءكم وأموالكم  وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم. فلا ترجعن بعدي كفارا -أو ضلالا- يضرب بعضكم رقاب بعض. ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه يكون أوعى له من بعض من سمعه». ثم قال: «ألا هل بلغت ؟». (أخرجه البخاري (4406) ومسلم (1679)).
وفي رواية: قلنا: نعم. (أخرجه البخاري (7078)).
وعن قتادة رحمه الله: أما قوله: ﴿فلا تظلموا فيهن أنفسكم، فإن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئةً ووِزْرًا، من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا، ولكن الله يعظِّم من أمره ما شاء. وقال: إن الله اصطفى صَفَايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسُلا ومن الناس رسلا واصطفى من الكلام ذكرَه، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضانَ والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلةَ القدر، فعظِّموا ما عظم الله، فإنما تعظم الأمور بما عظَّمها الله عند أهل الفهم وأهل العقل. (أخرجه الطبري في جامع البيان/14/ص238-239/بسند حسن).
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: وقال تعالى: ﴿فلا تظلموا فيهن أنفسكم أي: في هذه الأشهر المحرمة؛ لأنه آكد وأبلغ في الإثم من غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف، لقوله تعالى: ﴿ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم [الحج: 25] وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام؛ ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي، وطائفة كثيرة من العلماء، وكذا في حق من قتل في الحرم أو قتل ذا محرم. ("تفسير القرآن العظيم"/4/ص148).
          قلت عفا الله عني-: انظروا إلى حرمة هذا الشهر، وغيره من الأشهر الحرم، ثم انظروا إلى كثرة معاصي إخواننا فيها مع تضعيف الذنوب وتغليظ الآثام فيها، فلا بد من نشر العلم والنصيحة في أوساط المجتمع ليعلموا عظم حقوق ربهم، وعظيم حرمات هذه الأشهر.
فائدة: ذكر الشيخ علم الدين السخاوي في جزء جمعه سماه "المشهور في أسماء الأيام والشهور": أن المحرم سمي بذلك لكونه شهرا محرما، وعندي أنه سمي بذلك تأكيدا لتحريمه؛ لأن العرب كانت تتقلب به، فتحله عاما وتحرمه عاما، قال: ويجمع على محرمات، ومحارم، ومحاريم. (انتهى النقل من "تفسير ابن كثير"/4 /ص147).
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه: «وأفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم» يدل  على أن صوم رمضان هو الأفضل، ثم صوم شهر المحرم. قال الإمام النووي رحمه الله: قوله صلى الله عليه و سلم «أفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم» تصريح بأنه أفضل الشهور للصوم. ("شرح النووي على مسلم"/8/ص55).

الحديث الثاني:

عن أبي قتادة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى الله أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى الله أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ ». (أخرجه مسلم (1162)).
ما هو يوم عاشوراء؟
قد اختلف الناس في ذلك، والراحج أنه اليوم العاشر من شهر المحرم. قال القرطبي رحمه الله: عاشوراء معدول عن عاشرة للمبالغة والتعظيم، وهو في الأصل صفة لليلة العاشرة لأنه مأخوذ من العشر الذي هو اسم العقد واليوم مضاف إليها فإذا قيل يوم عاشوراء، فكأنه قيل يوم الليلة العاشرة إلا إنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الاسمية فاستغنوا عن الموصوف فحذفوا الليلة فصار هذا اللفظ علما على اليوم العاشر. (كما في "فتح الباري"/ لابن حجر /4/ص245).
وقال ابن حجر رحمه الله: وعلى هذا فيوم عاشوراء هو العاشر وهذا قول الخليل وغيره. وقال الزين بن المنير الأكثر على أن عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم وهو مقتضى الاشتقاق والتسمية. ("فتح الباري"/ لابن حجر /4 /ص245).
          هذا الحديث يدل دلالة واضحة على عظم فضيلة صوم عاشوراء لأنه به كفر الله خطايا السنة الماضية.

الحديث الثالث:

          عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانوا يصومون عاشوراء قبل أن يفرض رمضان، وكان يوما تستر فيه الكعبة. فلما فرض الله رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شاء أن يصومه فليصمه، ومن شاء أن يتركه فليتركه». (أخرجه البخاري (1592) ومسلم (1125)، واللفظ للبخاري).
ما حكم صوم يوم عاشوراء؟ هذا الصوم مستحب ليس واجبا، كما جاء من هذا الحديث.

الحديث الرابع:

          عن ابن عباس رضي الله عنهما يقول: حين صام رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى. فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع». قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم. (أخرجه مسلم (1134)).
          هذا الحديث يدل على مشروعية مخالفة اليهود في صورة العبادة. قال الإمام النووي رحمه الله: قال بعض العلماء: ولعل السبب في صوم التاسع مع العاشر أن لا يتشبه باليهود في إفراد العاشر. وفي الحديث إشارة إلى هذا. ("شرح النووي على مسلم"/8 /ص13).
          وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: ولما كان صوم يوم عاشوراء لا يمكن التعويض عنه بغيره لفوات غير ذلك اليوم أمرنا أن نضمّ إليه يوماً قبله ويوماً بعده لتزول صورة المشابهة. ("أحكام أهل الذمة"/ص 242).
          وقال ابن حجر رحمه الله بعد ذكر هذا الحديث: فإنه ظاهر في أنه صلى الله عليه وسلم كان يصوم العاشر وهَمَّ بصوم التاسع. فمات قبل ذلك، ثم ما همّ به من صوم التاسع يحتمل معناه أنه لا يقتصر عليه بل يضيفه إلى اليوم العاشر إما احتياطا له وإما مخالفة لليهود والنصارى وهو الأرجح. ("فتح الباري"/ لابن حجر /4/ص245).
          والتشبه بالكفار منهي عنه، وفيه ضرر على دين المسلمين. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ومن تشبه بقوم فهو منهم» (أخرجه أحمد (5232) وأبو داود (4026). الحديث صحيح. راجع كلام الإمام الألباني رحمه الله في "إرواء الغليل" برقم (1269)/ ط. المكتب الإسلامي).
          قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهذا إسناد جيد. وقال رحمه الله: وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله:  ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ- إلى قوله: - وقد يحمل على أنه منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه فإن كان كفرا، أو معصية، أو شعارا لها كان حكمه كذلك. وبكل حال يقتضي تحريم التشبه ("الاقتضاء"/1 / ص 270-271/ مكتبة الرشد).
          وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: وسر ذلك أن المشابهة في الهدي الظاهر ذريعة إلى الموافقة في القصد والعمل. ("إعلام الموقعين"/3/ص140).

الحديث الخامس:

          عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسئلوا عن ذلك ؟ فقالوا: هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون. فنحن نصومه تعظيما له. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «نحن أولى بموسى منكم» فأمر بصومه. (أخرجه مسلم (1130)).
          قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: «نحن أولى بموسى منكم» وأمر بصيامه. فهذا دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصمه أيضا إلا تعظيما له. ("التمهيد"/7/ص209).

الحديث السادس:

          عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن صيام يوم عاشوراء؟ فقال: ما علمت أن رسول الله عليه وسلم صام يوما يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم، ولا شهرا إلا هذا الشهر يعني رمضان. (أخرجه مسلم (1132)).
          قال الإمام ابن رجب رحمه الله: وكان للنبي صلى الله عليه و سلم في صيامه أربع حالات :
 الحالة الأولى : أنه كان يصومه بمكة و لا يأمر الناس بالصوم ففي "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية، و كان النبي صلى الله عليه و سلم يصومه. فلما قدم المدينة صامه و أمر بصيامه، فلما نزلت فريضة شهر رمضان كان رمضان هو الذي يصومه فترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه و من شاء أفطره. و في رواية للبخاري: و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «من شاء فليصمه و من شاء أفطر».
 الحالة الثانية : أن النبي صلى الله عليه و سلم لما قدم المدينة ورأى صيام أهل الكتاب له و تعظيمهم له، وكان يحب موافقتهم فيما لم يؤمر به صامه، وأمر الناس بصيامه، وأكد الأمر بصيامه والحث عليه حتى كانوا يصومونه أطفالهم. ففي "الصحيحين" عن ابن عباس قال : قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم: «ما هذا اليوم الذي تصومونه ؟». قالوا : هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا. فنحن نصومه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «فنحن أحق و أولى بموسى منكم». فصامه رسول الله صلى الله عليه و سلم وأمر بصيامه. إلى قوله:-
          وقد اختلف العلماء رضي الله عنهم هل كان صوم يوم عاشوراء قبل فرض شهر رمضان واجبا أم كان سنة متأكدة ؟ على قولين مشهورين. ومذهب أبي حنيفة: أنه كان واجبا حينئذ، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد و أبي بكر الأثرم. وقال الشافعي رحمه الله: بل كان متأكد الاستحباب فقط. وهو قول كثير من أصحابنا و غيرهم.
          الحالة الثالثة : أنه لما فرض صيام شهر رمضان ترك النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة بصيام عاشوراء و تأكيده فيه. وقد سبق حديث عائشة في ذلك. وفي "الصحيحين" عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : صام النبي صلى الله عليه و سلم عاشوراء و أمر بصيامه فلما فرض رمضان ترك ذلك. و كان عبد الله لا يصومه إلا أن يوافق صومه. وفي رواية لمسلم : إن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء، وأن رسول الله صلى الله عليه و سلم صامه و المسلمون قبل أن يفرض رمضان. فلما فرض رمضان قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : «إن عاشوراء يوم من أيام الله فمن شاء صامه و من شاء تركه» و في رواية له أيضا : «فمن أحب منكم أن يومه فليصمه و من كره فليدعه». وفي "الصحيحين" أيضا عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: «هذا يوم عاشوراء و لم يكتب الله عليكم صيامه. و أنا صائم فمن شاء فليصم و من شاء فليفطر». إلى قوله:-
          وأكثر العلماء على استحباب صيامه من غير تأكيد. و ممن روي عنه صيامه من الصحابة: عمر، و علي، و عبد الرحمن بن عوف، و أبو موسى، و قيس بن سعد، و ابن عباس، و غيرهم. و يدل على بقاء استحبابه قول ابن عباس رضي الله عنهما : لم أر رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم يوما يتحرى فضله على الأيام إلا يوم عاشوراء و شهر رمضان. و ابن عباس إنما صحب النبي صلى الله عليه و سلم بآخرة، و إنما عقل منه صلى الله عليه و سلم من آخر أمره. و في "صحيح مسلم" عن أبي قتادة أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن صيام عاشوراء؟ فقال : «أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله». و إنما سأله عن التطوع بصيامه فإنه سأله أيضا عن صيام يوم عرفة، و صيام الدهر، و صيام يوم و فطر يوم، و صيام يوم و فطر يومين. فعلم أنه إنما سأله عن صيام التطوع. على قوله:-
          الحالة الرابعة : أن النبي صلى الله عليه و سلم عزم في آخر عمره على أن لا يصومه مفردا بل يضم إليه يوما آخر مخالفة لأهل الكتاب في صيامه. ففي "صحيح مسلم" عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال حين صام رسول الله صلى الله عليه و سلم عاشوراء و أمر بصيامه قالوا : يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود و النصارى. فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع». قال : فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم. و في رواية له أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع مع العاشر» يعني عاشوراء.، ...إلخ.
(انتهى النقل "لطائف المعارف"/ص 53).

الباب السادس: وجوب الاهتمام بالتوبة، واجتناب الذنوب ومحبطات العمل، ولا يتكل على نصوص الوعد

          اعلم أن بعض الناس يتساهلون بالمعاصي، ولم يتوبوا من الكبائر بعلة أن صيامهم تكفر جميع الذنوب. وهذا القول منبعث عن الغرور بنصوص الوعد بدون النظر في حقائق الأمور، وعظم حقوق الله، وشروط صحة العمل، ومحبطاته.
          قال شيخ الإسلام رحمه الله: صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صيام يوم عرفة يكفر سنتين، وصيام يوم عاشوراء يكفر سنة»، لكن إطلاق القول بأنه يكفر لا يوجب أن يكفر الكبائر بلا توبة، فإنه صلى الله عليه وسلم قال في: «الجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر»([17]) ومعلوم أن الصلاة هي أفضل من الصيام، وصيام رمضان أعظم من صيام يوم عرفة، ولا يكفر السيئات إلا باجتناب الكبائر كما قيده النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يظن أن صوم يوم أو يومين تطوعا يكفر الزنا والسرقة وشرب الخمر والميسر والسحر ونحوه؟ فهذا لا يكون. ("مختصر الفتاوي المصرية لابن تيمية"/1/ص254).
          وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: وكاغترار بعضهم على صوم يوم عاشوراء أو يوم عرفة حتي يقول بعضهم: (يوم عاشوراء يكفر ذنوب العام كلها، ويبقى صوم عرفة زيادة في الأجر) ولم يدر هذا المغتر أن صوم رمضان والصلوات الخمس أعظم وأجل من صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء، وهي إنما تكفر ما بينهما إذا اجتنبت الكبائر. فرمضان، والجمعة إلى الجمعة لا يقويان على تكفير الصغائر إلا مع انضمام ترك الكبائر إليها، فيقوي مجموع الأمرين على تكفير الصغائر. فكيف يكفر صوم تطوع كل كبيرة عملها العبد وهو مصرّ عليها غير تائب منها؟ هذا محال، على أنه لا يمتنع أن يكون صوم يوم عرفة ويوم عاشوراء يكفر لجميع ذنوب العام على عمومه ويكون من نصوص الوعد التي لها شروط وموانع، ويكون إصراره على الكبائر مانعا من التكفير. فإذا لم يصر على الكبائر تساعد الصوم وعدم الإصرار، وتعاونا على عموم التكفير كما كان رمضان والصلوات الخمس مع اجتناب الكبائر متساعدين متعاونين على تكفير الصغائر، مع أنه سبحانه قد قال: ﴿إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم﴾ فعلم أن جعل الشيء سببا للتكفير لا يمنع أن يتساعد هو وسبب آخر على التكفير، ويكون التكفير مع اجتماع السببين أقوى وأتم منه مع انفراد أحدهما. وكلما قويت أسباب التكفير كان أقوي وأتم وأشمل. ("الجواب الكافي"/ص 13).
          وقال رحمه الله: وأما عمل شملته الغفلة أو لأكثره وفقد الإخلاص الذي هو روحه ولم يوف حقه ولم يقدره حق قدره فأي شيء يكفر هذا ؟ فإن وثق العبد من عمله بأنه وفاه حقه الذي ينبغي له ظاهرا وباطنا ولم يعرض له مانع يمنع تفكيره ولا مبطل يحبطه - مِن عجب، أو رؤية نفسه فيه، أو يمنّ به، أو يطلب من العباد تعظيمه به، أو يستشرف بقلبه لمن يعظمه عليه، أو يعادي من لا يعظمه عليه، ويرى أنه قد بخسه حقه، وأنه قد استهان بحرمته - فهذا أي شيء يكفر ؟
 ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحصر. وليس الشأن في العمل إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه. فالرياء وإن دق محبط للعمل وهو أبواب كثيرة لا تحصر، وكون العمل غير مقيد باتباع السنة أيضا موجب لكونه باطلا، والمن به على الله تعالى بقلبه مفسد له، وكذلك المن بالصدقة والمعروف والبر والإحسان والصلة مفسد لها كما قال سبحانه وتعالى : ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى﴾ وأكثر الناس ما عندهم خبر من السيئات التي تحبط الحسنات وقد قال تعالى : ﴿يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون﴾ فحذر المؤمنين من حبوط أعمالهم بالجهر لرسول الله صلى الله عليه و سلم كما يجهر بعضهم لبعض، وليس هذا بردة بل معصية تحبط العمل وصاحبها لا يشعر بها. فما الظن بمن قدم على قول الرسول صلى الله عليه و سلم وهدية وطريقه قول غيره وهديه وطريقه ؟ ("الوابل الصيب"/ص 15).
          خلاصة الكلام: أن أدلة الوعد بالأجور لبعض الأعمال سبب للإغراء على تحسين العبادات مع شدة الرجاء إلى الله، ولكن لا ينبغي للعبد أن يغتر بها فيكتفي بها ويترك ما هو أعظم من الواجبات التي أوجبها الله عليه.



الباب السابع: بعض الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة في أخبار يوم عاشوراء

          هناك أخبار كاذبة كثيرة جدا في شأن يوم عاشوراء، نبه عليها العلماء رحمهم الله لئلا ينخدع بها الناس، سأذكر بعضها للمثال.
الحديث الأول:
          عن الزهري ، قال: لما قتل الحسين بن علي رضي الله تعالى عنه لم يرفع حجر ببيت المقدس إلا وجد تحته دم عبيط. (أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير (2765)).
في سنده أبو بكر الهذلي وهو متروك الحديث.
وأخرجه أيضا الإمام ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (187) من قول الزهري أيضا، وفي سنده رجل مبهم.
وأخرجه أيضا الحكيم في "المستدرك" عن الزهري عن أسماء رضي الله عنها بها من قولها.
في سنده نوح بن دراج. قال الإمام الذهبي رحمه الله في تلخيصه على "المستدرك": نوح كذاب.
          وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: وقد ذكر الطبراني ههنا آثارا غريبة جدا، ولقد بالغ الشيعة في يوم عاشوراء فوضعوا أحاديث كثيرة كذبا فاحشا من كون الشمس كسفت يومئذ حتى بدت النجوم وما رفع يومئذ حجر إلا وجد تحته دم وأن أرجاء السماء احمرت وأن الشمس كانت تطلع وشعاعها كأنه دم وصارت السماء كأنها علقة وأن الكواكب ضرب بعضها بعضا وأمطرت السماء دما أحمر وأن الحمرة لم تكن في السماء قبل يومئذ، ونحو ذلك. وروى ابن لهيعة عن أبي قبيل المعافري أن الشمس كسفت يومئذ حتى بدت النجوم وقت الظهر، وأن رأس الحسين لما دخلوا به قصر الإمارة جعلت الحيطان تسيل دما، وأن الأرض أظلمت ثلاثة أيام، ولم يمس زعفران ولا ورس بما كان معه يومئذ إلا احترق من مسه، ولم يرفع حجر من حجارة بيت المقدس إلا ظهر تحته دم عبيط، وأن الإبل التي غنموها من إبل الحسين حين طبخوها صار لحمها مثل العلقم، إلى غير ذلك من الأكاذيب والأحاديث الموضوعة التي لا يصح منها شيء. ("البداية والنهاية"/8/ص201).

الحديث الثاني:
          عن ابن عباس رضي الله عنهما: «من صام يوم عاشوراء كتب الله له عبادة ستين سنة».
          قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ومن ذلك حديث: «من صام يوم عاشوراء كتب الله له عبادة ستين سنة» وهذا باطل، يرويه حبيب بن أبي حبيب عن إبراهيم الصائغ عن ميمون بن مهران عن ابن عباس. وحبيب كان يضع الأحاديث. ("المنار المنيف"/ص 47).

الحديث الثالث:
«إن الله خلق السموات والأرض يوم عاشوراء».
          قال الإمام ابن القيم رحمه الله في ذكر أحاديث موضوعات: ومن ذلك حديث: «إن الله خلق السموات والأرض يوم عاشوراء». ("المنار المنيف"/ص 52).

الحديث الرابع:
          عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اكتحل بالإثمد يوم عاشوراء لم يرمد أبدا».
          أخرجه البيهقي في " شعب الإيمان" (5/ص334) من طريق جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس. قال البيهقي رحمه الله: وجويبر ضعيف، والضحاك لم يلق ابن عباس اهـ.
          وقال شيخ الإسلام رحمه الله: ولكن روى بعض المتأخرين في ذلك أحاديث مثل ما رووا أن: «من اكتحل يوم عاشوراء لم يرمد من ذلك العام، ومن اغتسل يوم عاشوراء لم يمرض ذلك العام»، وأمثال ذلك. ("مجموع الفتاوى"/25/ص300).
          وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: ومنها أحاديث الاكتحال يوم عاشوراء والتزين والتوسعة والصلاة فيه وغير ذلك من فضائل لا يصح منها شيء ولا حديث واحد، ولا يثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم فيه شيء غير أحاديث صيامه. وما عداها فباطل. ("المنار المنيف"/ص 111).
          وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: والمستغرب ذكر نوح أيضا والله أعلم. وأما ما يذكره كثير من الجهلة أنهم أكلوا من فضول أزوادهم ومن حبوب كانت معهم قد استصحبوها واطحنوا الحبوب يومئذ واكتحلوا بالإثمد لتقوية أبصارهم لما انهارت من الضياء بعد ما كانوا في ظلمة السفينة، فكل هذا لا يصح فيه شيء، وإنما يذكر فيه آثار منقطعة عن بني إسرائيل لا يعتمد عليها، ولا يقندي بها والله أعلم. ("البداية والنهاية"/1/ص117).

الحديث الخامس:
          عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه و سلم: «من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه في سائر سنته».
          أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (3/ص365) وقال: تفرد به هيضم عن الأعمش.
          وقال شيخ الإسلام رحمه الله: ورووا في حديث موضوع مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم، أنه «من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر السنة». ورواية هذا كله عن النبي صلى الله عليه وسلم كذب، ولكنه معروف من رواية سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه، قال: بلغنا أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء، وسع الله عليه سائر سنته،وإبراهيم بن محمد بن المنتشر من أهل الكوفة، وأهل الكوفة كان فيهم طائفتان : طائفة رافضة يظهرون موالاة أهل البيت، وهم في الباطن إما ملاحدة زنادقة، وإما جهال وأصحاب هوى .
وطائفة ناصبة تبغض عليا وأصحابه؛ لما جرى من القتال في الفتنة ما جرى .
("مجموع الفتاوى"/25/ص300-301).
          وقال رحمه الله: وأما قول ابن عيينة، فإنه لا حجة فيه، فإن الله سبحانه أنعم عليه برزقه، وليس في إنعام الله بذلك ما يدل على أن سبب ذلك كان التوسيع يوم عاشوراء، وقد وسع الله على من هم أفضل الخلق من المهاجرين والأنصار، ولم يكونوا يقصدون أن يوسعوا على أهليهم يوم عاشوراء بخصوصه. ("مجموع الفتاوى"/25/ص313).
          وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: وأمثل ما فيها: «من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته». قال الإمام أحمد: لا يصح هذا الحديث. ("المنار المنيف"/ص 111).
          قال الإمام ابن رجب رحمه الله: و كل ما روى في فضل الاكتحال في يوم عاشوراء و الاختضاب و الاغتسال فيه فموضوع لا يصح و أما الصدقة فيه فقد روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : من صام عاشوراء فكأنما صام السنة و من تصدق فيه كان كصدقة السنة. أخرجه أبو موسى المديني.
          وأما التوسعة فيه على العيال فقال حرب : سألت أحمد عن الحديث الذي جاء : «من وسع على أهله يوم عاشوراء» فلم يره شيئا. وقال ابن منصور : قلت لأحمد : هل سمعت في الحديث : «من وسع على أهله يوم عاشوراء أوسع الله عليه سائر السنة» فقال : نعم رواه سفيان بن عيينة عن جعفر الأحمر عن إبراهيم بن محمد عن المنتشر، وكان من أفضل أهل زمانه أنه بلغه : أنه من وسع على عياله يوم عاشوراء أوسع الله عليه سائر سنته. قال ابن عيينة : جربناه منذ خمسين سنة أو ستين سنة فما رأينا إلا خيرا. وقول حرب أن أحمد لم يره شيئا إنما أراد به الحديث الذي يروى مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم، فإنه لا يصح إسناده، وقد روي من وجوه متعددة لا يصح منها شيء. وممن قال ذلك محمد بن عبد الله بن عبد الحكم. وقال العقيلي : هو غير محفوظ. وقد روي عن عمر من قوله. وفي إسناده مجهول لا يعرف. ("لطائف المعارف"/ص 76/دار الحديث).
         
الحديث السادس:
          عن سعيد بن زيد رضي الله عنها قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «... فجرت بهم السفينة ستة أشهر، آخر ذلك يوم عاشوراء أهبط على الجودي، فصام نوح ومن معه والوحش شكرا لله عز وجل، وفي يوم عاشوراء أفلق الله البحر لبني إسرائيل، وفي يوم عاشوراء تاب الله عز وجل على آدم صلى الله عليه و سلم وعلى مدينة يونس، وفيه ولد إبراهيم صلى الله عليه و سلم». (أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" (5538)).
          في سنده عثمان بن مطر الشيباني، منكر الحديث.
          وقال شيخ الإسلام رحمه الله: ورووا فضائل في صلاة يوم عاشوراء، ورووا أن في يوم عاشوراء توبة آدم، واستواء السفينة على الجودي، ورد يوسف على يعقوب، وإنجاء إبراهيم من النار، وفداء الذبيح بالكبش ونحو ذلك . ("مجموع الفتاوى"/25/ص300-301).

الحديث السابع:
          حديث مرفوع: «من صلي ركعتين في يوم عاشوراء يقرأ فيهما بكذا وكذا كتب له ثواب سبعين نبيا». لا يعرف سنده.
          وقال شيخ الإسلام رحمه الله: كالأحاديث المروية في فضائل الأعمال على وجه المجازفة كما يروي مرفوعا : أنه «من صلي ركعتين في يوم عاشوراء يقرأ فيهما بكذا وكذا كتب له ثواب سبعين نبيا» ونحو ذلك هو عند أهل الحديث من الأحاديث الموضوعة فلا يعلم حديث واحد يخالف العقل أو السمع الصحيح إلا وهو عند أهل العلم ضعيف بل موضوع. ("درء تعارض العقل والنقل"/1/ص98).

الحديث الثامن:
          هناك حديث آخر في فضيلة صوم يوم عاشوراء وهو ضعيف: عن علي : قال سأله رجل فقال: أي شهر تأمرني أن أصوم بعد شهر رمضان ؟ قال له: ما سمعت أحدا يسأل عن هذا إلا رجلا سمعته يسأل رسول الله صلى الله عليه و سلم وأنا قاعد فقال: يا رسول الله أي شهر تأمرني أن أصوم بعد شهر رمضان؟ قال: «إن كنت صائما بعد شهر رمضان فصم المحرم فإنه شهر الله فيه يوم تاب فيه على قوم ويتوب فيه على قوم آخرين». (أخرجه الترمذي (741)).
          في سنده: عبد الرحمن بن إسحاق. قال أبو داود: سمعت أحمد يضعفه. وقال أبو طالب عن أحمد: ليس بشيء منكر الحديث. وقال الدوري عن ابن معين: ضعيف ليس بشيء. وقال ابن سعد ويعقوب بن سفيان وأبو داود والنسائي وابن حبان: ضعيف. ("تهذيب التهذيب"/6/ص124).

          فمن عرف شدة ضعف هذه الأخبار لا يجوز له بناء دينه بها، بل يكفيه ما ثبت من النبي صلى الله عليه وسلم.



الباب الثامن: التحذير من المحدثات يوم عاشوراء

          إن فضيلة يوم عاشوراء ثابتة في الشرع، وإنما ينالها من عبد الله تعالى في ذلك اليوم على وجه مشروع، لأن الدين دين الله وشهر المحرم شهره، فلا يقبل من العبادات إلا ما كانت موافقة لشريعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودّع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبداً حبشيّاً، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة». (أخرجه أبو داود (كتاب السنة/في لزوم السنة/(4594)/عون المعبود/دار الكتب العلمية) وغيره، وحسنه الإمام الوادعي رحمه الله في "الصحيح المسند" رقم (921) /دار الآثار).
وعن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ ». (أخرجه البخارى (كتاب الصلح/إذا اصطلحوا .../(2697) /دار الكتب العلمية)، ومسلم (كتاب الأقضية/نقض الأحكام الباطلة/(1718)/دار ابن الجوزي) بلفظ: «ما ليس منه»).
          وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: «إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة. فمن كانت شرته إلى سنتي فقد أفلح. ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك». (أخرجه الإمام أحمد (6764) وصححه الإمام الوادعي رحمه الله في "الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين" (3250)).
          وعلى رجل من الأنصار من أصحاب الرسول أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «فمن اقتدى بي فهو مني. ومن رغب عن سنتي فليس مني. إن لكل عمل شرة، ثم فترة فمن كانت فترته إلى بدعة فقد ضل، ومن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى». (أخرجه الإمام أحمد (23521) وصححه الإمام الوادعي رحمه الله في "الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين" (3251)).
          وقال شيخ الإسلام رحمه الله: ودين الإسلام مبني على أصلين : على ألا نعبد إلا الله، وأن نعبده، بما شرع، لا نعبده بالبدع، قال تعالى : ﴿فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا﴾ [ الكهف :110 ] ، فالعمل الصالح ما أحبه الله ورسوله. ("مجموع الفتاوى"/25/ص316-317).
فمن البدع يوم عاشوراء:
الأولى: الاحتفال برأس السنة الهجرية
          قال عبد الله التويجري حفظه الله في بحثه عن هذا الموضوع: في بداية كل سنة هجرية تحتفل بعض الدول الإسلامية بعيد رأس السنة، فتعطل الأعمال في اليوم السابق له ، واليوم اللاحق له. وليس لاحتفالهم هذا أي مستند شرعي ، وإنّما هو حب التقليد والمشابهة لليهود والنصارى في احتفالاتهم .
          وأول من احتفل برأس السنة الهجرية -حسب اطلاعي المحدود - هم ناصري البدعة حكام الدولة العبيدية -الفاطمية- في مصر. ذكر ذلك المقريزي في خططه ضمن الأيام التي كان العبيديون يتخذونها أعياداً ومواسماً. قال: (موسم رأس السنة : وكان للخلفاء الفاطميين اعتناء بليلة أول المحرم في كل عام ؛ لأنها أول ليالي السنة وابتداء أوقاتها ...) ا.هـ . ثم ذكر الرسوم المتبقية في هذا الموسم ، وذكر بعده موسم أول العام وعنايتهم به.
          وعيد رأس السنة من أعياد اليهود التي نطقت بها التوراة ، ويسمونه رأس هيشا، أي عيد رأس الشهر ، وهو أول يوم من تشرين ، ينزل عندهم منزلة عيد الأضحى عند المسلمين، ويقولون : إن الله عز وجل أمر إبراهيم بذبح إسحاق ابنه - عليهما السلام - فيه ، وفداه بذبح عظيم.
          فجاء النصارى فقلدوا اليهود، وصاروا يحتفلون بليلة رأس السنة الميلادية. ولهذا الاحتفال عندهم مراسم خاصة ، وذلك أنه في تلك الليلة- ليلة أول يوم من العام الجديد- يجتمع المحتفلون ويسهرون على موائد الأكل والشرب المباحة والمحرمة ، في أماكن عامة للأكل والشرب والرقص واللهو . فإذا جاءت الساعة الثانية عشرة- بالتوقيت الزوالي- وهو منتصف الليل ، أُطفئت الأنوار ، فيقبل كل شخص من بجانبه مدة تزيد عن خمس دقائق ،وتكون الأماكن مرتبة بحيث يكون كل رجل بجانبه امرأة ، سواء كان يعرفها أو لا يعرفها ، ويعلم كل واحد منهما أن الآخر سيقبله في الوقت الذي تطفأ فيه الأنوار ، وليس المقصود من إطفاء الأنوار الستر ، بل يعبرون بذلك عن نهاية عام ، وبداية عام جديد .
          فلذلك تجد كثيراً من شباب المسلمين وشيبهم يحرصون على حضور هذه الاحتفالات ، سواء في بلادهم ، أو في بلاد الغرب أو الشرق ، لكن لا تفوتهم هذه المراسم ، ويخسرون في سبيل ذلك المال الكثير ، ويعتبرون ذلك فرصة يجب أن تُنتهز؛ لأنَّها - كما يزعمون - من ليالي العمر التي لا تُنسى !!!.
          ولم يتوقف الاحتفال بها على النصارى فقط ، بل صارت كثير من البلدان الإسلامية ، والتي ربما يوجد بها نسبة من النصارى ولو قليلة ، يحتفل العامة فيها بعيد رأس السنة الميلادية .
          وسرى التقليد إلى أن احتفلوا أيضاً برأس السنة الهجرية ، ولكن المراسم تختلف . ولا شك أن في هذا الاحتفال - الاحتفال برأس السنة الهجرية - أمر مُحدث مُبتدع ، لم يُؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه-رضوان الله عليهم-، ولا عن السلف الصالح من التابعين وتابعيهم وأعلام الأمة وعلمائها من الأئمة الأربعة وغيرهم - رحمة الله عليهم - . ولكن حدث ذلك بعد القرون المفضلة ، بعدما اختلط المسلمون بغيرهم من اليهود والنصارى ، ودخل في الإسلام من يريد بذلك أن يفسد على المسلمين دينهم، فصاروا يحتفلون بأعياد اليهود والنصارى، وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم «لتتبعن سنن من كل قبلكم ...» الحديث.
          وقد اخترع بعض المبتدعة دعاء لليلتي أول يوم من السنة وآخرها، وصار العامة في بعض البلدان الإسلامية يرددونه مع أئمتهم في بعض المساجد، وهذا الدعاء لم يُؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أصحابه ، ولا عن التابعين، ولم يرو في مسند من المسانيد.
          وهذا نصه : اللهم ما عملته في هذه السنة مما نهيتني عنه ولم ترضه ، ونسيته ولم تنسه ، وحلمت عليَّ في الرزق بعد قدرتك على عقوبتي ، ودعوتني إلى التوبة بعد جراءتي على معصيتك ، اللهم إني أستغفرك منه فاغفر لي ، وما عملته فيها من عمل ترضاه ووعدتني عليه الثواب فأسألك يا كريم ، يا ذا الجلال والإكرام أن تقبله مني ، ولا تقطع رجائي منك يا كريم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
          ويقولون : فإن الشيطان يقول : قد تعبنا معه سائر السنة ، فأفسد عملنا في واحدة ، ويحثوا التراب على وجهه. ويسبق هذا الدعاء صلاة عشر ركعات ، يقرأ في كل ركعة الفاتحة ، ثم آية الكرسي عشر مرات، والإخلاص عشر مرات.
          ولا يخفى على طالب العلم أن الدعاء عبادة ، والعبادات توقيفية ، وهذا الدعاء لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يُذكر عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - كما تقدَّم .
          ومما أحدث أيضاً في يومي آخر السنة وأولها صيامهما ، واستند المبتدعة إلى حديث : «من صام آخر يوم من ذي الحجة ، وأول يوم من الحرم ، فقد ختم السنة الماضية ، وافتتح السنة المستقبلة بصوم جعل الله له كفارة خمسين سنة».
(انتهى النقل من "البدع الحولية"/لعبد الله التويجري/ ص392-396).

الثانية: النياحة على الحسين، وضرب  الخدود، وشق الجيوب، ولعن بعض الصالحين، وتجريح الرؤوس والأبدان، وغير ذلك من بدع الروافض
          ليس من شريعة الله تعالى أن يتخذ يوم وفاة شخص مأتماً.
          قال شيخ الإسلام رحمه الله: وصارت البدع والأهواء والكذب تزداد، حتى حدث أمور يطول شرحها، مثل ما ابتدعه كثير من المتأخرين يوم عاشوراء، فقوم يجعلونه مأتما يظهرون فيه النياحة والجزع، وتعذيب النفوس وظلم البهائم، وسب من مات من أولياء الله والكذب على أهل البيت، وغير ذلك من المنكرات المنهي عنها بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتفاق المسلمين . ("مجموع الفتاوى"/4 /ص511).
          وقال رحمه الله: فكان ما زينه الشيطان لأهل الضلال والغي من اتخاذ يوم عاشوراء مأتما، وما يصنعون فيه من الندب والنياحة، وإنشاد قصائد الحزن، ورواية الأخبار التي فيها كذب كثير والصدق فيها ليس فيه إلا تجديد الحزن والتعصب، وإثارة الشحناء والحرب، وإلقاء الفتن بين أهل الإسلام، والتوسل بذلك إلى سب السابقين الأولين، وكثرة الكذب والفتن في الدنيا، ولم يعرف طوائف الإسلام أكثر كذبا وفتنا ومعاونة للكفار على أهل الإسلام من هذه الطائفة الضالة الغاوية، فإنهم شر من الخوارج المارقين. ("مجموع الفتاوى"/25/ص309).
          قال الإمام ابن رجب رحمه الله: وأما اتخاذه مأتما كما تفعله الرافضة لأجل قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما فيه : فهو من عمل من ضل سعيه في الحياة الدنيا و هو يحسب أنه يحسن صنعا و لم يأمر الله و لا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء و موتهم مأتما فكيف بمن دونهم. ("لطائف المعارف"/ص 77/دار الحديث).
          وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: وقد أسرف الرافضة في دولة بني بويه في حدود الأربعمائة وما حولها فكانت الدبادب تضرب ببغداد ونحوها من البلاد في يوم عاشوراء ويذر الرماد والتبن في الطرقات والأسواق وتعلق المسوح على الدكاكين، ويظهر الناس الحزن والبكاء وكثير منهم لا يشرب الماء ليلتئذ موافقة للحسين لأنه قتل عطشانا، ثم تخرج النساء حاسرات عن وجوههن ينحن ويلطمن وجوههن وصدورهن حافيات في الأسواق إلى غير ذلك من البدع الشنيعة والأهواء الفظيعة والهتائك المخترعة. وإنما يريدون بهذا وأشباهه أن يشنعوا على دولة بني أمية لأنه قتل في دولتهم. ("البداية والنهاية" /8/ص202).

الثالثة: تحري الغسل والاكتحال يوم عاشوراء، وغير ذلك مما فعله بعض مبغضين على الرافضة، فقابلوا بدعة الرافضة ببدعة أخرى
          قال شيخ الإسلام رحمه الله: وقوم من المتسننة رووا ورويت لهم أحاديث موضوعة، بنوا عليها ما جعلوه شعارا في هذا اليوم، يعارضون به شعار ذلك القوم، فقابلوا باطلا بباطل، وردوا بدعة ببدعة، وإن كانت إحداهما أعظم في الفساد وأعون لأهل الإلحاد، مثل الحديث الطويل الذي روى فيه : «من اغتسل يوم عاشوراء لم يمرض ذلك العام، ومن اكتحل يوم عاشوراء لم يرمد ذلك العام». وأمثال ذلك من «الخضاب يوم عاشوراء والمصافحة فيه» ونحو ذلك. فإن هذا الحديث ونحوه كذب مختلق باتفاق من يعرف علم الحديث، وإن كان قد ذكره بعض أهل الحديث وقال : إنه صحيح وإسناده على شرط الصحيح، فهذا من الغلط الذي لا ريب فيه، كما هو مبين في غير هذا الموضع .
          ولم يستحب أحد من أئمة المسلمين الاغتسال يوم عاشوراء، ولا الكحل فيه والخضاب، وأمثال ذلك، ولا ذكره أحد من علماء المسلمين الذين يقتدى بهم، ويرجع إليهم في معرفة ما أمر الله به ونهى عنه، ولا فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي.
          ولا ذكر مثل هذا الحديث في شيء من الدواوين التي صنفها علماء الحديث، لا في المسندات ؛ كمسند أحمد، وإسحاق، وأحمد بن منيع الحميدي، والدالاني، وأبو يعلى الموصلي، وأمثالها. ولا في المصنفات على الأبواب؛ كالصحاح، والسنن. ولا في الكتب المصنفة الجامعة للمسند والآثار؛ مثل موطأ مالك، ووكيع، وعبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وأمثالها.
(انتهى النقل "مجموع الفتاوى"/4/ص513-514).
          وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: وقد عاكس الرافضة والشيعة يوم عاشوراء النواصب من أهل الشام فكانوا إلى يوم عاشوراء يطبخون الحبوب ويغتسلون ويتطيبون ويلبسون أفخر ثيابهم ويتخذون ذلك اليوم عيدا يصنعون فيه أنواع الأطعمة ويظهرون السرور والفرح يريدون بذلك عناد الروافض ومعاكستهم.
          وقد تأول عليه من قتله أنه جاء ليفرق كلمة المسلمين بعد اجتماعها وليخلع من بايعه من الناس واجتمعوا عليه وقد ورد في "صحيح مسلم" الحديث بالزجر عن ذلك والتحذير منه والتوعد عليه وبتقدير أن تكون طائفة من الجهلة، قد تأولوا عليه وقتلوه ولم يكن لهم قتله بل كان يجب عليهم إجابته إلى ما سأل من تلك الخصال الثلاثة المتقدم ذكرها. فإذا ذمت طائفة من الجبارين تذم الأمة كلها بكمالها وتتهم على نبيها ص فليس الأمر كما ذهبوا إليه، ولا كما سلكوه بل أكثر الأئمة قديما وحديثا كاره ما وقع من قتله وقتل أصحابه سوى شرذمة قليلة من أهل الكوفة قبحهم الله، وأكثرهم كانوا قد كاتبوه ليتوصلوا به إلى أغراضهم ومقاصدهم الفاسدة.
          فلما علم ذلك ابن زياد منهم بلغهم ما يريدون من الدنيا وآخذهم على ذلك وحملهم عليه بالرغبة والرهبة فانكفوا عن الحسين وخذلوه، ثم قتلوه وليس كل ذلك الجيش كان راضيا كما وقع من قتله بل ولا يزيد بن معاوية رضي بذلك والله أعلم ولا كرهه. والذي يكاد يغلب على الظن أن يزيد لو قدر عليه قبل أن يقتل لعفا عنه كما أوصاه بذلك أبوه، وكما صرح هو به مخبرا عن نفسه بذلك، وقد لعن ابن زياد على فعله ذلك وشتمه فيما يظهر ويبدو، ولكن لم يعزله على ذلك، ولا عاقبه، ولا أرسل يعيب عليه ذلك. والله أعلم.
          فكل مسلم ينبغي له أن يحزنه قتله رضي الله عنه، فإنه من سادات المسلمين وعلماء الصحابة وابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي أفضل بناته، وقد كان عابدا وشجاعا وسخيا.
          ولكن لا يحسن ما يفعله الشيعة من إظهار الجزع والحزن الذي لعل أكثره تصنع ورياء، وقد كان أبوه أفضل منه فقتل وهم لا يتخذون مقتله مأتما كيوم مقتل الحسين، فإن أباه قتل يوم الجمعة وهو خارج إلى صلاة الفجر في السابع عشر من رمضان سنة أربعين. وكذلك عثمان كان أفضل من على عند أهل السنة والجماعة وقد قتل وهو محصور في داره في أيام التشريق من شهر ذي الحجة سنة ست وثلاثين، وقد ذبح من الوريد إلى الوريد، ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتما. وكذلك عمر بن الخطاب وهو أفضل من عثمان وعلى قتل وهو قائم يصلى في المحراب صلاة الفجر، ويقرأ القرآن، ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتما. وكذلك الصديق كان أفضل منه ولم يتخذ الناس يوم وفاته مأتما. ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، وقد قبضه الله إليه كما مات الأنبياء قبله، ولم يتخذ أحد يوم موتهم مأتما يفعلون فيه ما يفعله هؤلاء الجهلة من الرافضة يوم مصرع الحسين.
(انتهى من "البداية والنهاية"/8/ص202-203).
         
الرابعة: تحري صلاة خاصة ليوم عاشوراء
          ومما أحدث في شهر المحرم: تحري الصلاة ليلة عاشوراء من أجل تلك الليلة ليلة عاشوراء. استدل بعضهم بما روي عن أبي هريرة رضي الله عن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحيى ليلة عاشوراء فكأنما عبدالله تعالى بمثل عبادة أهل السموات ، ومن صلى أربع ركعات ، يقرأ في كل ركعة الحمد مرة ، وخمسة مرة قل هو الله أحد ، غفر الله له ذنوب خمسين عاما ماض ، وخمسين عاما مستقبل ، وبنى له في المثل الأعلى ألف ألف منبر من نور» .
          قال ابن الجوزي رحمه الله: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد أدخل على بعض المتأخرين من أهل الغفلة ، على أن عبدالرحمن بن أبى الزناد مجروح . قال أحمد : هو مضطرب الحديث ، وقال يحيى : لا يحتج به.
("الموضوعات"/لابن الجوزي /2 /ص122).
          ومن ذلك تحريهم الصلاة يوم عاشوراء من أجل ذلك اليوم. استدلوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من صلى يوم عاشوراء ما بين الظهر والعصر أربعين ركعة ، يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب مرة ، وآية الكرسي عشر مرات ، وقل هو الله أحد إحدى عشرة مرة ، والمعوذتين خمس مرات، فإذا سلم استغفر سبعين مرة ، أعطاه الله في الفردوس قبة بيضاء فيها بيت من زمردة خضراء ، سعة ذلك البيت مثل الدنيا ثلاث مرات ، وفى ذلك البيت سرير من نور ، قوائم السرير من العنبر الأشهب ، على ذلك السرير ألفا فراش من الزعفران».
          قال ابن الجوزي رحمه الله: هذا حديث موضوع . وكلمات الرسول عليه السلام منزهة عن مثل هذا التخليط . والرواة مجاهيل . والمتهم به الحسين . ("الموضوعات"/ لابن الجوزي /2/ص122-123).
          والمراد بالحسين هنا الحسين بن إبراهيم الراوي عن الحسن بن علي بن جعفر. قال فيه أبو الوفا إبراهيم الطرابليسي: دجال. ("الكشف الحثيث"/ص 96).
          إذا علمنا أن الأخبار مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يحل لنا العمل بها. فالصلاة أفضل الأعمال، ولكن من فعلها على غير هدى النبي صلى الله عليه وسلم ردت عليه. فمن عبد الله بمخالفة شريعة النبي صلى الله عليه وسلم فقد ابتدع في الإسلام وكأنه يزعم أن الدين يحتاج إلى تكميل، وهذا ضلال مبين. قال الإمام الشاطبي رحمه الله: فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حالة أو مقالة : إن الشريعة لم تتم وأنه بقي منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها، لأنه لو كان معتقدا لكمالها وتمامها من كل وجه لم يبتدع ولا استدرك عليها وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم.
          قال ابن الماجشون : سمعت مالكا يقول : من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة زعم أن محمدا صلى الله عليه و سلم خان الرسالة لأن الله يقول : ﴿اليوم أكملت لكم دينكم﴾ فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا. ("الاعتصام"/ص 33).
          قال شيخ الإسلام رحمه الله: وأشد من ذلك ما يذكره بعض المصنفين في "الرقائق والفضائل" في الصلوات الأسبوعية، والحولية : كصلاة يوم الأحد، والإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة، والسبت، المذكورة في كتاب أبي طالب، وأبي حامد، وعبد القادر، وغيرهم . وكصلاة "الألفية" التي في أول رجب، ونصف شعبان، والصلاة "الاثني عشرية" التي في أول ليلة جمعة من رجب، والصلاة التي في ليلة سبع وعشرين من رجب، وصلوات أخر تذكر في الأشهر الثلاثة، وصلاة ليلتي العيدين، وصلاة يوم عاشوراء، وأمثال ذلك من الصلوات المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم، مع اتفاق أهل المعرفة بحديثه أن ذلك كذب عليه، ولكن بلغ ذلك أقواما من أهل العلم والدين، فظنوه صحيحا، فعملوا به، وهم مأجورون على حسن قصدهم واجتهادهم، لا على مخالفة السنة .
وأما من تبينت له السنة فظن أن غيرها خير منها، فهو ضال مبتدع، بل كافر .
(انتهى من "مجموع الفتاوى"/24/ص201-202).

          إنما هذه بعض البدع المتعلقة بيوم عاشوراء، لم أستوعب الذكر. فعلى العبد أن يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز له أن يعبد الله بالبدع فصار ضالا خارجا عن الصراط المستقيم.
          قال شيخ الإسلام رحمه الله: فالهدى بغير هدى من الله أو غير ذلك ضلالة. ونحن علينا أن نتبع ما أنزل إلينا من ربنا من الكتاب والحكمة، ونلزم الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، ونعتصم بحبل الله جميعا ولا نتفرق، ونأمر بما أمر الله به وهو المعروف، وننهي عما نهى عنه وهو المنكر؛ وأن نتحرى الإخلاص لله في أعمالنا، فإن هذا هو دين الإسلام قال الله تعالى : ﴿بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ [ البقرة : 112 ] ،  وقال تعالى : ﴿ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا﴾ [ النساء : 125 ] .
("مجموع الفتاوى/4/ص514-515).




الباب التاسع: التحذير من سوء الخاتمة

          إذا قد علمنا أهمية تحسين العمل للحياة بعد الموت لا بد أن ننتبه أن من أعظم العوائق هي الغرور بزخرف الدنيا، فكم من قتيل لها يتهالك من أجلها حتى جاءه الموت فيندم ولات ساعة مندم. قال الله تعالى: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ الله وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [الأنعام: 70]
          وقال سبحانه: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ [الأنعام: 130]
          وقال تعالى: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قَالُوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [الأعراف: 50، 51].
وقال سبحانه: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران/185]
          إذا قال قائل: لا يضرني التهالك من أجل الدنيا، وقد أعددت لموتي بشهادة أن لا إله إلا الله، فمن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة.
          قلنا بالله التوفيق-: آمنا بأنه من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة([18]). ولكن كم من محتضر حيل بينه وبين كلمة التوحيد أحوج ما يكون، من أجل ذنوبه التي لم يتب منها؟ وسوء الخاتمة حاصل على كثير ممن أغرق حياته في الانشغال بالدنيا. هم الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش. طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع». (أخرجه البخاري (2887)، عن أبي هريرة رضي الله عنه).
          فالصنف الأول هو المتهالك للدنيا المؤاثر لها، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالتعاسة. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه، ولم يفلح؛ لكونه تعس وانتكس، فلا نال المطلوب ولا خلص من المكروه، وهذه حال من عبد المال. ("مجموع الفتاوى"/10/ص180).
          والصنف الثاني المقبل على الله بكليته، فدعا له صلى الله عليه وسلم بالسعادة. قال بدر الدين العيني رحمه الله: إشارة إلى عدم التفاته إلى الدنيا وأربابها بحيث يفنى بكليته في نفسه لا يبتغي مالا ولا جاها عند الناس بل يكون عند الله وجيها ولم يقبل الناس شفاعته وعند الله يكون شفيعا مشفعا. ("عمدة القاري"/21/ص369).
          فالصنف الأول هو الذي أصيب كثير منهم بسوء الخاتمة.
          قال الإمام ابن القيم رحمه الله: إن العبد إذا وقع في شدة، أو كربة، أو بلية، خانه قلبه ولسانه وجوارحه عما هو أنفع شيء له، فلا ينجذب قلبه للتوكل على الله تعالى والانابة إليه والجمعية عليه والتضرع والتذلل والانكسار بين يديه ولا يطاوعه لسانه لذكره وان ذكره بلسانه لم يجمع بين قلبه ولسانه، فلا ينحبس القلب على اللسان بحيث يؤثر فيه الذكر ولا ينحبس اللسان والقلب على المذكور، بل إن ذكر أو دعا ذكر بقلب غافل لاه ساه ولو أراد من جوارحه أن تعينه بطاعة تدفع عنه لم تنقد له ولم تطاوعه، وهذا كله أثر الذنوب والمعاصي. كمن له جند يدفع عنه الأعداء فأهمل جنده وضيعهم وأضعفهم وقطع أخبارهم ثم أراد منهم عند هجوم العدو عليه أن يستفرغوا وسعهم في الدفع عنه بغير قوة.
          هذا وثم أمر أخوف من ذلك وأدهى وأمر وهو: أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار والانتقال إلى الله تعالى، فربما تعذر عليه النطق بالشهادة كما شاهد الناس كثيرا من المحتضرين أصابهم ذلك حتى قيل لبعضهم: (قل: لا إله إلا الله) فقال: (آه آه لا أستطيع أن أقولها).
          وقيل لآخر: (قل: لا إله إلا الله) فقال: (شاه رخ غلبنك) ثم قضى. وقيل لآخر: (قل: لا إله إلا الله) فقال: (يا رب قائلة يوما وقد تعبت ... أين الطريق إلى حمام منجاب؟) ثم قضى. وقيل لآخر: (قل: لا إله إلا الله) فجعل يهذي بالغناء ويقول: (تاتا ننتنتا) فقال: (وما ينفعني ما تقول، ولم أدع معصية إلا ركبتها) ثم قضى ولم يقلها. وقيل لآخر ذلك فقال: (وما يغني عني وما أعلم أني صليت لله تعالى صلاة) ثم قضى ولم يقلها. وقيل لآخر ذلك فقال: (هو كافر بما تقول) وقضي. وقيل لآخر ذلك فقال: (كلما أردت أن أقولها فلساني يمسك عنها). وأخبرني من حضر بعض الشحاذين عند موته فجعل يقول: لله، فُليسٌ لله، فليس حق) قضي. وأخبرني بعض التجار عن قرابة له أنه احتضر وهو عنده فجعلوا يلقنونه: لا إله إلا الله وهو يقول: (هذه القطعة رخيصة، هذا مشتري جيد، هذه كذا) حتى قضي.
          وسبحان الله كم شاهد الناس من هذا عبرا والذي يخفي عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم، وإذا كان العبد في حال حضور ذهنه وقوته وكمال إدراكه قد تمكن منه الشيطان واستعمله بما يريده من المعاصي، وقد أغفل قلبه عن ذكر الله تعالى وعطل لسانه من ذكره وجوارحه عن طاعته، فكيف الظن به عند سقوطه قواه واشتغال قلبه ونفسه بما هو فيه من ألم النزع، وجمع الشيطان له كل قوته وهمته وحشد عليه بجميع ما يقدر عليه لينال منه فرصته، فإن ذلك آخر العمل فأقوى ما يكون عليه شيطانه ذلك الوقت، وأضعف ما يكون هو في تلك الحالة. فمن ترى يسلم على ذلك؟ فهناك يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء. فكيف يوفق لحسن الخاتمة من أغفل الله سبحانه قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان أمره فرطا؟ فبعيد من قلب بعيد من الله تعالى غافل عنه متعبد لهواه مصير لشهواته ولسانه يابس من ذكره وجوارحه معطلة من طاعته مشتغلة بمعصية الله أن يوفق لحسن الخاتمة.
(انتهى النقل من "الجواب الكافي" /ص 61-62).
          وقال الإمام ابن قدامة المقدسي رحمه الله: ولسوء الخاتمة أسباب تتقدم على الموت، مثل البدعة، والنفاق، والكبر، ونحو ذلك من الصفات المذمومة، ولذلك اشتد خوف السلف من النفاق. إلى قوله:-
          والأسباب التي تفضي إلى سوء الخاتمة لا يمكن انحصارها على التفصيل، لكن يمكن الإشارة إلى مجامع ذلك. أما الختم على الشك والجحود، فسببه البدعة، ومعناها أن يعتقد في ذات الله تعالى، أو صفاته، أو أفعاله خلاف الحق، إما تقليداً، أو برأيه الفاسد، فإذا انكشف الغطاء عند الموت، بان له بطلان ما اعتقده، فيظن أن جميع ما اعتقده هكذا لا أصل له .
          ومن اعتقد في الله سبحانه وصفاته اعتقاداً مجملاً على طريق السلف من غير بحث ولا تنقر، فهو بمعزل عن هذا الخطر إن شاء الله تعالى .
          وأما الختم على المعاصي، فسببه ضعف الإيمان في الأصل، وذلك يورث الانهماك في المعاصي، والمعاصي مطفئة لنور الإيمان، وإذا ضعف الإيمان ضعف حب الله تعالى، فإذا جاءت سكرات الموت، ازداد ذلك ضعفا، لاستشعاره فراق الدنيا، فإن السبب الذي يفضي إلى مثل هذا الخاتمة، وهو حب الدنيا، والركون إليها، مع ضعف الإيمان الموجب لضعف حب الله، فمن وجد في قلبه حب الله تعالى، أغلب من حب الدنيا، فهو أبعد من هذا الخطر، وكل من مات على محبة الله تعالى، قدم به قدوم العبد المحسن المشتاق إلى مولاه، فلا يخفى ما يلقاه من الفرح والسرور بمجرد القدوم، فضلاً عما يستحقه من الإكرام .
          ومن فارقه الروح في حال، خطر بباله فيها لإنكار على الله سبحانه في فعله، أو كان مصراً على مخالفته، قدم على الله قدوم من قدم به قهراً، فلا يخفى ما يستحقه من النكال .
          فمن أراد طريق السلامة، تزحزح عن أسباب الهلاك، على أن العلم بتقليب القلوب وتغيير الأحوال، يقلقل قلوب الخائفين .
(انتهى النقل من "مختصر منهاج القاصدين"/للمقدسي /4/ص69-70).
والله تعالى أعلم،
والحمد لله رب العالمين
دماج، 28 ذو الحجة 1433 هـ




فهرس الكتاب

جدول المحتويات
تقديم فضيلة الشيخ أبي محمد عبد الحميد بن يحيى. 1
الحجوري الزعكري حفظه الله.. 1
تقديم فضيلة الشيخ أبي محمد عبد الحميد بن يحيى الحجوري الزعكري حفظه الله.. 3
المقدمة 4
الباب الأول: أدلة وجود فتنة القبر، ونعيمه، وعذابه 5
الباب الثاني: تنصيص أهل السنة على وجوب الإيمان بفتنة القبر، وعذابه، ونعيمه 10
الباب الثالث: من أسباب عذاب القبور. 13
الباب الرابع: من أسباب نعيم القبور. 41
الباب الخامس: الاستعداد للحياة بعد الموت باستغلال شهر المحرم بالعبادات المشروعة 70
الفصل الأول: بعض أدلة فضائل شهر المحرم 72
الحديث الأول: 73
الحديث الثاني: 79
الحديث الثالث: 81
الحديث الرابع: 83
الحديث الخامس: 84
الباب السادس: وجوب الاهتمام بالتوبة، واجتناب الذنوب ومحبطات العمل، ولا يتكل على نصوص الوعد 88
الباب السابع: بعض الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة في أخبار يوم عاشوراء. 92
الباب الثامن: التحذير من المحدثات يوم عاشوراء. 103
الباب التاسع: التحذير من سوء الخاتمة 119
فهرس الكتاب.. 126





([1]) أخرجه البخاري (86) ومسلم (905) عن أسماء رضي الله عنها.
([2]) قال الإمام الطبري رحمه الله: حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة به.
بشر هو ابن معاذ العقدي أبو سهل البصري الضرير. قال أبو حاتم الرازي: صالح الحديث صدوق. ("الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم /2 / رقم (1418/(دار الفكر).
يزيد هو ابن زريع  العيشي أبو معاوية البصري ثقة حافظ متقن. قال الإمام أحمد رحمه الله: وكل شيء رواه يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة فلا تبال أن لا تسمعه من أحد سماعه منه قديم. ("تهذيب التهذيب" /4/ ص 411/الرسالة).
وسعيد هو ابن أبي عروبة أثبت الناس في قتادة، وروايته عنه في التفسير محتج بها أيضا.
هذا السند حسن.
ولسعيد بن أبي عروبة شاهد من شعبة رحمه الله. قال الطبري رحمه الله:  حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن العلاء قالا: حدثنا بدل بن المحبر قال، حدثنا شعبة، عن قتادة به. ("جامع البيان" /11 /ص647/دار هجر).
بدل بن المحبر هو ابن المنبه التميمي اليربوعي أبو المنير البصري، ثقة. ("تهذيب التهذيب" /1/ ص215/الرسالة).
فالأثر صحيح، والحمد لله.
([3]) وقال الإمام الطبري رحمه الله: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن به.
محمد بن عبد الأعلى الصنعاني القيسي أبو عبد الله، ثقة. ("تهذيب الكمال" /(5385)/الرسالة).
محمد بن ثور الصنعاني أبو عبد الله، ثقة. ("الجرح والتعديل" /رقم (1208/(دار الفكر).
فالآفة رواية معمر عن الحسن، وقد قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في ترجمة معمر: لم يسمع من الحسن. ("جامع التحصيل" /رقم (786) /ط. عالم الكتب).
فالأثر منقطع.
([4]) جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند ابن حبان (3117)، سيأتي ذكره إن شاء الله.
([5]) هذا الأثر حسن. أخرجه الإمام ابن أبي الدنيا رحمه الله في كتاب "القبور" برقم (128) واللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد" برقم (1742)، والبيهقي رحمه الله في "شعب الإيمان" (4928) من طريق: هشام بن حسان عن واصل مولى أبي عيينة عن عمرو وهو ابن هرم- عن عبد الحميد بن محمود المعولي به.
عبد الحميد بن محمود المعولي هو بصري ثقة، وعمرو بن هرم ثقة، وواصل مولى أبي عيينة بصري ثقة، وهشام بن حسان صدوق.
([6]) هذا الأثر حسن. محمد بن الحسين  هذا حديثه حسن إن شاء الله. ذكره ابن حبان في "الثقات" (15338).
          وقال فيه الإمام الذهبي رحمه الله: الإمام أبو جعفر محمد بن الحسين بن أبي شيخ البرجلاني صاحب التواليف في الرقائق... وعنه: ابن أبي الدنيا كثيرا. ("سير أعلام النبلاء"/ 11/ص112).
          وقال أبو حاتم الرزاي رحمه الله: ذكر لي أن رجلا سأل أحمد بن حنبل عن شيء من حديث الزهد فقال: عليك بمحمد بن الحسين البرجلاني ("الجرح والتعديل"/رقم (1261)).
          وعن إبراهيم بن إسحاق الحربي أنه سئل عن محمد بن الحسين البرجلاني فقال: ما علمت إلا خيرا. ("تاريخ بغداد"/2 /ص223).
([7]) يعني: في البرزخ هؤلاء ينعمون مع أن الحياة الدنيا لم تزل باقية.
([8]) وهو ثقة كما في "الطبقات الشافعية الكبرى" برقم (244).
([9]) وهو ثقة كما في "تاريخ بغداد" برقم (5870).
([10]) عن ابن عباس رضي الله عنهما في قصة صلاة الكسوف: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني أريت الجنة فتناولت منها عنقودا ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا». (أخرجه البخاري (748) ومسلم (907)).
([11]) عن أنس بن مالك رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لروحة في سبيل الله أو غدوة خير من الدنيا وما فيها ولقاب قوس أحدكم من الجنة أو موضع قيد يعني سوطه خير من الدنيا وما فيها ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحا ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها». (أخرجه البخاري (2796)).
([12]) قال ابن حبان رحمه الله: أخبرنا الحسن بن سفيان قال : حدثنا عبد الواحد بن غياث قال : حدثنا معتمر بن سليمان قال : سمعت محمد بن عمرو يحدث عن أبي سلمة عن أبي هريرة به.
الحسن بن سفيان هو إمام صاحب المسند.
عبد الواحد بن غياث هو أبو بحر الصيرفي، ثقة. ("تهذيب التهذيب" /2 /ص622/الرسالة).
وبقية الرجال معروفون، فالحديث حسن مرفوع بهذا السند من أجل محمد بن عمرو. وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: إسناده جيد. ("تفسير القرآن العظيم"/سورة طه).
وحسنه الإمام الألباني رحمه الله في "التعليقات الحسان" (رقم (3103/(دار باوزير).
ولكن أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (باب الصبر والبكاء والنياحة/3 / 567) عن جعفر بن سليمان قال حدثني محمد بن عمرو بن علقمة قال حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة من قوله.
فعلى تقدير ثبوت كلتا الروايتين المرفوعة والموقوفة- فقد جعل محمد بن عمرو هذا الحديث حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وخالفه أبو حازم وهو سلمة بن دينار- فجعله من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (باب فتنة القبر/3 / 584) عن ابن عيينة عن أبي حازم عن أبي سلمة عن أبي سعيد الخدري قال: )فإن له معيشة ضنكا( قال: يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه.
وأبو حازم ثقة وأثبت من محمد بن عمرو، فالراجح أن الحديث حديث أبي سعيد رضي الله عنه موقوفا.
وروي أيضا عن أبي سعيد مرفوعا، ولكن في سنده ابن لهيعة، وهو ضعيف، وفيه أيضا دراج عن أبي الهيثم، روايته عنه ضعيفة. فالصحيح وقفه على أبي سعيد رضي الله عنه. وقد قال ابن كثير رحمه الله: الموقوف أصح. ("تفسير القرآن العظيم"/سورة طه).
([13]) أخرجه البخاري (2067) ومسلم (2557) عن أنس رضي الله عنه.
([14]) أخرجه البخاري (1954) ومسلم (1151) ، وهذا لفظه، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
([15]) أخرجه البخاري (1896) ومسلم (1152) ، عن سهل بن سعد رضي الله عنهما.
([16]) أخرجه الإمام أحمد (16322) عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه، بسند صحيح.
([17]) أخرجه مسلم (574) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
([18]) أخرجه الإمام أحمد (22180) وفي سنده صالح بن أبي عريب وثقه الإمام الذهبي رحمه الله في "الكاشف" (2355). والحديث بما في الباب صحيح لغيره.